إن العمل هو أساس الحياة ومحركها وهو وسيلة الانسان لخلق الموارد والدخول والأجور التي توفر العيش للأفراد في سبيل الاستمرار في الحياة وبقائهم وتحقيق سعادتهم كما لايخفى علينا أهمية قوانين العمل المنظمة لعلاقات العمل بكافة مستوياتها للدولة الحديثة ، حيث تمثل هذه القوانين أهمية كبيرة في بيان المراكز القانونية لكل فئة من الفئات التي تعنى بها هذه القوانين.لقد شهدت قوانين العمل تطوراً تاريخياً كبيراً مروراً بمرحلة الصراع بين طبقة الأحرار والأرقاء ، ثم بين القوى الاقتصادية من إقطاع الريف وأصحاب الحرف في المدينة ، تبعها قيام الثورة الصناعية التي غيرت المفاهيم التقليدية وأظهرت أفكارا ونظريات تبرر لكل طرف من أطراف الإنتاج سياسته في تنظيم علاقات العمل حيث ساد مبدأ الحرية الفردية الذي قام على مبدأ سلطان الإرادة وحريتها في التعاقد في المجالات الاقتصادية والتجارية عامة وفي مجال العمل خاصة وقد حققت الرأسمالية هدفها في هذه المجالات وتأكد مبدأ الحرية الفردية على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والقانونية . لقد كان من نتائج الأخذ بمبدأ الحرية القانونية أن أصبحت العقود تبرم بموجب مبدأ سلطان الإرادة وفق قاعدة ( العقد شريعة المتعاقدين) ومنح الافراد الحرية اللازمة لترتيب ما يرتأون من أثار قانونية على تصرفهم لايقيدهم في ذلك سوى النظام العام والآداب العامة ، لذا فقد اقتصر دور الدولة على التدخل لتأكيد احترام العقد وتنفيذه عند الإخلال بشروطه من قبل احد أطرافه ، إلا إن إطلاق حرية التعاقد في تنظيم علاقات العمل قد تركت أثارا سلبية على الطبقة العاملة ، حيث أصبحت الحاجة الاقتصادية تجبرهم على قبول الشروط التعسفية التي يفرضها عليهم أصحاب العمل فأصبح العامل هو الطرف الضعيف الذي لايملك إلا أن يذعن لشروط صاحب العمــل ( الطرف القوي) مما أدى إلى استغلال العمال وتشغيلهم ساعات عمل طويلة مقابل أجور قليلة قياسا بالجهد الذي يبذلونه ، تشغيل الأطفال والنساء بشروط وظروف مرهقة ، قلة الخدمات الصحية ، عدم توفير احتياطات العمل، عدم وجود الضمان الاجتماعي للبطالة أو إصابات العمل وحرمانهم من الإجازات الاعتيادية و المرضية المأجورة.وقد زاد في الأمر سوءاً ظهور الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في العالم الرأسمالي مما أدى إلى التشكيك في جدوى المبررات التي طرحها هذا النظام لحل مشاكل الإنسان المعاصر ، ففي المجال الاقتصادي يتميز النظام بالدورات الاقتصادية يترتب على ذلك توقف المصانع في مرحلة الكساد وتسريح أعداد كبيرة من العمال مما يؤدي إلى تفشي البطالة . أما في المجال الاجتماعي فقد ظهر التفكك الاجتماعي وتوسعت مظاهره من إدمان وأمراض نفسية وانتشار الجريمة والرذيلة وعدم كفاية الخدمات وتردي الصحة العامة فضلا عن كثرة حوادث العمل وسوء التوافق بين العمال وأصحاب العمل. إلا إن هذا الصراع المستمر في الآراء والاتجاهات أدى بالنتيجة إلى إعادة النظر بالأفكار الاجتماعية والاقتصادية لتحقيق الاستقرار في عموم المجتمعات والحد من حالة الفوضى التي تسودها لخلق التوازن بين أفراد المجتمع عموما، وبين أطراف علاقة الإنتاج من عمال وأصحاب العمل خصوصاً مما أدى إلى إصدار التشريعات التي تحقق العدالة الاجتماعية خاصة في الجوانب الاقتصادية ومنها التي تتعلق بالأجور التي يجب أن تتناسب مع مايقدمه العامل من جهد ونشاط فضلا عن تحسين ظروف العمل المادية والإنسانية في الوقت ذاته إلى جانب تحديد حقوق والتزامات كل طرف من أطراف علاقة العمل ، كما قررت جزاءات مدنية وجنائية في حالة مخالفة الأحكام الآمرة الواردة فيها.لذا فقد ظهرت نظرية المشروع بمفهومها الاجتماعي التي أدت إلى مساهمة العمال في إدارة المشروع لأنهم الجهة التنفيذية فيه وهم أدرى بمشاكله كما إن العمال أصبحوا يحصلون على أرباح إلى جانب أجورهم أو ازدياد أجورهم بزيادة أرباح المشروع فضلا عن إن علاقات العمل أصبحت تحكمها القوانين أكثر مما تحكمها العقود وحتى في هذا المجال فقد برزت عقود العمل الجماعية إلى جانب العقود الفردية مما يضفي الصفة الاجتماعية لعلاقات العمل.إن مفهوم العدالة الاجتماعية الذي تسعى لتحقيقه تشريعات العمل يتضح من خلال الأسس والمبادئ التي يقوم عليها قانون العمل ومنها مبدأ حرية العمل ومبدأ تكافؤ الفرص ومبدأ المساواة في المعاملة بين من يقومون بعمل متماثل في مشروع واحد إذا تساوت مؤهلاتهم ومدة خدمتهم ... وغيرها من المبادئ . إن مبدأ المساواة لا يقصد به أن يأخذ الصفة المطلقة وإنما هي المساواة النسبية فبعض الأعمال تتطلب أن يؤديها الذكور دون الإناث وقد يكون العكس صحيحا كما إنها قد تتطلب أن يكون العامل بعمر معين وهذا يلاحظ جليا من خلال اهتمام قوانين العمل سواء في العراق أو في مصر أو في فرنسا باشتغال المرأة وتنظيم متطلبات عملها وقد راعى ظروف عملها من حيث ساعات العمل الاعتيادية والإضافية وفترات الراحة والإجازات السنوية وساعات العمل الليلي ومنع أصحاب العمل من تشغيلها في الأعمال الخطرة أو الضارة بالصحة كما إن المشرع قد تدخل لحماية فئة العمال الأحداث الذين قد تضطرهم بعض الظروف العائلية والمعاشية إلى العمل من اجل توفير لقمة العيش لهم ولعوائلهم فضلا عن مراعاة نوع العمل الذي يقوم به العامل.من كل ما تقدم يتضح لنا إن مبدأ المساواة لايمكن تحقيقه إلا حين يتساوى الأفراد في ظروفهم ومراكزهم الواقعية والقانونية لذلك فقد حرص المشرع على رعاية فئات خاصة من العمال وحمايتهم فأجاز تشغيلهم وفق ضوابط وشروط خاصة تحول دون تعرضهم إلى مخاطر اجتماعية أو مادية أو نفسية وبهذا فقد أقام قانون العمل علاقات العمل على أساس من التضامن الاجتماعي بين أطرافه، وما يتطلب من تعاون متبادل أو مشاركة في المسؤولية لتحقيق السعادة والعيش الكريم لإفراد المجتمع.إن جملة هذه المبررات دفعت الدول إلى إصدار التشريعات التي تضمن بموجبها حقوق العمال ورعاية مصالحهم في مواجهة أصحاب العمل والمجتمع عموما.