شكل التفاعل الدولي ميداناً خصباً للدراسة والبحث في مجال العلاقات الدولية بشكل خاص والعلوم السياسية بشكل عام؛ ذلك لأنه عكس صوراً متعددة لعلاقات دولية ذات طبيعة وهيئة مميزة، تبعاً للمصالح والغايات التي تنشدها الدول في تعاملاتها وعلاقاتها مع غيرها من الدول،سواء أكانت مجاورة لها أم لديها إهتمامات مشابهةً لها على المستوى السياسي أم الإقتصادي أم العسكري على حدٍ سواء،معتمدة بذلك على إستراتيجيات تضعها لنفسها،تبيّن من خلالها الأُطر العامة التي ستنتهجها في علاقاتها وتحركاتها على المستوى الإقليمي والدولي.ولا يخفى على أحدٍ أن هذه التفاعلات تأخذ شكل وطبيعة المصالح التي قد تلتقي أو تتقاطع بين الدول بحسب الميول والرغبات،والتي تؤثر بشكل كبير في إنتاج الصورة النهائية لهذا التفاعل،فعندما تلتقي هذه المصالح مع الميول المشتركة فأنها تنتج صورة تعاونية لمثل هذه العلاقات،لتؤدي الى أجواء سياسية تتسم بالهدوء عبر آليات شراكة أو تنسيق أو إتفاق على قضية معينة،أما إذا تقاطعت فأنها وبشكل أكبر ستؤدي الى أن يبحث كل طرف عن تحقيق مصالحه بعيداً عن الطرف الآخر،لكن هذا التقاطع يؤدي الى ظهور صورتين جديدتين،أولهما التنافس إذا كان هنالك إمكانية لتحقيق بعض المصالح للأطراف المتنافسة،وثانيهما الصراع لو أن أحدهما يجب أن يحقق كل أهدافه مقابل أن يخسر الطرف الآخر كل شيء.لقد اِتسم التفاعل الدولي بعد نهاية الحرب الباردة بهيمنة الولايات المتحدة الأميركية على أغلب تفاصيله،فتارةً تتعاون مع دولة في جانب وتنافسها في جانب آخر،فنراها مثلاً تتعاون مع الصين في الجانب الإقتصادي،لكنها تنافسها في الجانب السياسي والأمني في إقليم الشرق الآسيوي،بغية تطويقها وتحديد مجال نفوذها في حيزها الإستراتيجي،وضمان عدم اِنتشارها في إقليمها،وعدم تنامي دورها عالمياً فيما بعد، وكذا الحال مع روسيا فهي توجهت منذ الوهلة الأولى لتشكّلها بعد تفكك الإتحاد السوفييتي الى تحجيمها،على الرغم من أنها حاولت أن تكون جزءاً من الحل لأزمتها الخانقة،التي ألمّت بها بفعل سياسات النظام السياسي الخاطئة في روسيا أبان مرحلة التأسيس،لكنها في حقيقة الأمر كانت تريد أن تجعلها (مقلّمة الأظافر) في مجالها الحيوي الأوراسي،في حين أنها تعاونت مع الإتحاد الأوروبي في مواجهة التحديات قبل تفكك الإتحاد السوفييتي،فأنها ظلت ملتزمة بهذا الوضع بعد الحرب الباردة،لكنها أخذت الجانب الذي يبقي هذا الإتحاد تحت المظلة الأميركية،والشيء نفسه مع اليابان في مواجهة التحدي الصيني والكوري الشمالي بدرجة أقل،إن هذه الإستراتيجية في التعامل مع الأوضاع الدولية،أسهمت وبشكل كبير في أن تهيمن الولايات المتحدة الأميركية على النظام الدولي وتفاعلاته،واِستفادت من أحداث 11/أيلول ـ سبتمبر لكي ترسخ هذه القناعة،بأنها مركز التفاعلات الدولية الرئيسة والثانوية،وأنه يجب أن تمر كل القرارات الدولية في هذا الصدد عبرها،وأن تنال موافقتها ومباركتها مستفيدة من تراجع القوى الأخرى مثل روسيا،أو عدم التوافق لدى الأخرى كالإتحاد الأوروبي،أو عدم وجود طموح نحو دور عالمي لدى الأخرى مثل الصين،أو عدم إمكانية خروجها عن دائرة حمايتها ودعمها العسكري مثل اليابان،ولذلك خاضت حروبها منفردة بدون أن تحاول أن ترجع الى القوى الكبرى لإشراكها في هذه العمليات،سعياً منها الى تكريس هذه الهيمنة وإستغلال الفرصة السانحة التي تهيأت لها،بفعل الهجمات الإرهابية على أراضيها 2001،حينها وقفت الى جانبها في حربها على الإرهاب من كل الدول دون إستثناء،وهذا ما آل بها الى التراجع بعد أن فقدت مصداقيتها سياسياً،وتنامي تكاليف الحرب التي تجاوزت 3 تريليون دولار في كل من أفغانستان والعراق، مما جعلها تعاني إقتصادياً،جنباً الى جنب مع أزمة مالية عالمية أندلع أوارها من أراضيها عام 2008.إن الحقائق المتقدمة أسهمت في تغيّر وضع التفاعل الدولي بإتجاه أن يسلك مسالك أكثر نشاطاً وحِدّة،وهذا يعود الى (فضلاً عن التراجع الأميركي) تنامي قوة الأقطاب الدولية الأخرى مما جعل التنافس يكون على أشدة في بقاع العالم الحيوية كآسيا الوسطى وأفريقيا حتى أميركا الجنوبية،لذلك برزت الى العلن التجاذبات والسياسات المتنافرة في هذه المناطق الحيوية التي تتسم بوفرة الموارد فيها،فضلاً عن أنها يمكن أن تكون أسواقاً جيدة لتصريف منتجاتها فيها،وإيجاد فرص إستثمارية جديدة،لذلك نجد أن التنافس الدولي في آسيا الوسطى والقوقاز (حوض بحر قزوين تحديداً) بلغ أشدة بين هذه الاقطاب، مستخدمة وسائل متنوعة أهمها التحالفات لمواجهة النفوذ الاميركي فيها،ومحاولة القطب الاوروبي للولوج الى المنطقة،وكذا الحال في إقليم الشرق الآسيوي عبر التحالف الصيني ـ الروسي،كذلك اِستخدام ورقة الملف النووي الكوري الشمالي فيها،لإرغام الاطراف الأخرى على عدم تجاهل القطب الصيني في الإقليم، جنباً الى جنب مع مساعي الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة لتطويق الصين وتحجيم دورها فيها.