بعد استقلال دول عالم الجنوب التي اتسمت بخضوعها للسيطرة الاستعمارية في أوقات متباينة ، ذهبت القيادات السياسية فيها إلى تحقيق هدف أساس مفاده بناء الدولة القومية ، الأمر الذي حتم عليها إقامة السلطة بمؤسساتها الوظيفية معتمدة على النموذج الغربي ، ونتيجة إلى ما آلت إليه السيطرة الاستعمارية من تكريس التخلف والتبعية لمجتمعات دول عالم الجنوب ، أخذت هذه الدول تخضع لضغط خارجي شديد ، حيث أن الدولة في عالم الجنوب ومؤسساتها القانونية والسياسية قد فرضت من جانب الدول الاستعمارية ، وفي مرحلة ما بعد الاستقلال والتحرر الوطني فقد تم الاحتفاظ بمؤسسات الدولة وشكلها أن أي سلطة ، إذا أرادت ، تحقيق الحد الأدنى المطلوب منها لتكون شرعية وفاعلة ومقبولة وحرة لابد أن تنطلق من أسس ( سياسية ، اقتصادية ، اجتماعية ، ثقافية ، دينية ) تعبر عن هوية الوطن الذي هي منه وترد إليه مضمون احتياجاته التاريخية بما يواكب المتغيرات المحيطة ، وأن تتمتع بقدر مقبول من الشرعية المنصوص عليها في الدستور المعمول به في هذه الدول ، وأي معوقات تعترض مهام السلطة على وفق معيار الرضا والقبول تشكل في الحقيقة فراغاً جزئياً ، وأن مجموعة الفراغات يمكن أن تفضي إلى فراغ كبير يعمق الهوة والفجوة بين ( السلطة والشعب ) أن السلطة في دول عالم الجنوب لا تنشغل إلا بذاتها ، ولا تجد حداً في التعدي على الدساتير بالتعديل أو التغيير لكي تمنح لنفسها بعضاً من الشرعية وتوسيع الصلاحيات ، حيث أن الدساتير في معظم دول عالم الجنوب لم تعد ذلك ( الميثاق المقدس ) وإنما صار بإمكان النخب الحاكمة ( حكم الاقلية ) أن تحول نفسها في رحلة صعودها إلى ( حكم الفرد ) الذي يسيطر على مقاليد الحكم والسلطة المطلقة ، وفراغ السلطة الذي نعنيه في هذا البحث ليس ناجم عن الوفاة أو التنحية أو العزل للحاكم وما يجلبه ذلك من صراعات بين الطوائف والأحزاب والتيارات المختلفة في محاولاتها لملء هذا الفراغ مدفوعة بخلفياتها الثقافية والدينية ، وإنما الأخطر من ذلك ، هذا الفراغ القائم عند وجود السلطة ذاتها وعجزها عن أداء المهام الموكولة إليها ، أي تعجز عن القيام بوظائفها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في الداخل والخارج . وهكذا عندما تعجز السلطة السياسية عن حماية المجتمع وتعبر بشكل حقيقي عن الدولة ، تكون قد فقدت اسس وجودها واتجهت إلى حالة ضعف شديدة تقود إلى فراغها من مضمونها تعد ظاهرة فراغ السلطة من أهم وأكثر المشاكل خطورة التي تواجهها دول عالم الجنوب ومجتمعاتها ، لما لذلك من آثار خطرة على أوضاعها المختلفة ، ففراغ السلطة يؤثر سلبياً في الوحدة الوطنية وبناء الدولة ويعرقل جهود التنمية وتطلعات شعوب دول عالم الجنوب نحو التقدم ، والقضاء على صور التخلف والتبعية المنتشرة في مجتمعاتها المختلفة ، وكذلك أن ظاهرة فراغ السلطة تؤثر في سمعة دول عالم الجنوب التي تعاني منها وهيبتها على الصعيدين الدولي والإقليمي ، هي إذن ظاهرة سلبية متعددة النتائج والانعكاسات تستدعي الاهتمام والدراسة والتمحيص على كل المستويات ، وهي أن خضعت للعديد من الدراسات والتفكير إلا أنها ما زالت حالة قائمة تعاني منها دول عالم الجنوب ، بل أننا أخذنا نشهد في السنوات الأخيرة صوراً جديدة لها وتأخذ ظاهرة فراغ السلطة نتائج عديدة ومختلفة قد نجد قسماً منها في هذا البلد أو ذاك أو قد نجدها مجتمعة في دولة واحدة ، فمن الانقلابات العسكرية ، والدور غير الاعتيادي للجيش في الحياة السياسية ، وهيمنة السلطة التنفيذية على عمل السلطة التشريعية ، وعدم احترام للدستور وقوانينه من قبل الفئة الحاكمة ، إلى الحروب الأهلية وحركات التمرد والانفصال والصراعات الحزبية والدينية والطائفية العنيفة ، وكل أشكال العنف السياسي سواء كانت تلك فردية أو جماعية . ومهما اختلفت الأشكال فأنها في حقيقتها تعكس حالة فراغ السلطة في المؤسسات السياسية والدستورية والاقتصادية والاجتماعية في العديد من دول عالم الجنوب ، إضافة إلى أنها تستخدم العنف السياسي وسيلةً لحل الخلافات والصراعات المختلفة وضعف دور المؤسسات الرسمية وغير الرسمية وعجزها من ناحية أخرى .