أضحت ظاهِرة الإِقليمية الجديدة بِمنظوماتها وترتيباتها وتكتُلاتِها،تُمثِل إحدى أهم الظواهر الإستراتيجية والسياسية والاقتصادية التي سادت المُجتمع الدولي في عالم ما بعد الحرب الباردة(بعد العام 1989)،بعد أن اتخذت لها رؤى متعددة،ومُتغيرات جديدة مُختلِفة دولية وإقليمية اقتضتها مصالح واستدعتها ضرورات فرضت نفسها على الدول المُنطوية تحت لوائها،وأهدافاً ذات أبعاد شاملة،إستراتيجية وجيوبوليتيكية وجيوستراتيجية وجيواقتصادية وعسكرية-أمنية ثُم ثقافية-حضارية. ومِن أجل ذلك فإن تأثيرات تلك الظاهِرة المُباشِرة وغير المُباشِرة ونتائجها ستكون فاعلةً في توزيع مراكز القوة والنفوذ في النظام العالمي وآفاقه المُستقبلية على نحوٍ عام ونُظمِه الإقليمية على نحوٍ خاص،بِما يفضي إلى تغيير بُنيتهِ الهيكلية الهرمية التي غدت تمر اليوم-أثر تلك الظاهرة-بِمرحلة جديدة مِن مراحل تطور تاريخه المُعاصر وتختلف نسبياً عن المراحل التي سبقتها لتتؤاءم والمُتغيرات الدولية الجديدة الحاصلة في النظام الدولي عامة منِذُ انتهاء مرحلة الحرب الباردة في العام 1989، على الرغم من بروز ظواهر أُخرى مُناقِضة لتِلك الظاهرة مِن حيث الأهداف والآليات والخصائص وهي العولمة وإفرازاتها بإشكالها كافة. ففي الوقت الذي دعت العولمة إلى إقامة مُجتمع دوَّلي مِن دون قيود،عن طريق إِقامة نِظام تِجارة حُرَّة مُتعددة الأطراف ومن دون قيود وحماية جمركية، لإقامة مُجتمعٍ خالٍ مِن القيود والتناقُضات والارتقاء به نحو بِناء وتحقيق التنمية الحقيقية والرفاهية والتقدُم للحفاظ على السلم والأمن الدوليين وفي كل دول العالم ومن دون استثناء ووِفقاً لِما نَظَّرُ لهُ دُعاة العولمة،فإن الإقليمية الجديدة أخذت في الوقت نفسه تدعو إلى إِقامة تكتُلات اقتصادية كُبرى تضمُ الدول الفاعلة في النظام الدولي،التي تملك قدرات اقتصادية وإستراتيجية كبرى لضمان استمرار تحقيق التقدم الاقتصادي والتنمية والحفاظ على المزايا التجارية بين الدول الأعضاء في هذه التكتُلات، الأمر الذي لا بُد وأن يُرتب تداعيات إستراتيجية وجيوبوليتيكية مُهمة على النِظام الدولي وبِنائه الهرمي، ولاسيما وإنَّ هذِه الدول،حرصت على إبقاء القيود الجمركية والحمائية مع الدول مِن خارج هذه التكتُلات،مِن اجل الحفاظ على مصالحها التجارية والاقتصادية.حتى استطاعت هذه التكتُلات بِما تملِكُه مِن قدرات اقتصادية وإستراتيجية هائلة،الهيمنة على مقاليد النظام الدولي بعد أن باتت الفرصة سانحةً وجِدّ مؤاتية لها، خصوصاً وإِنَّ القوة الأولى في العالم(الولايات المتحدة الأمريكية)-منذ زوال الاتحاد السوفيتي عام1991-التي أخذت تنوء بِحمل أعباء والتزامات النظام الدولي حتى باتت غير قادِرة على الإيفاء بها مُجتمعةً (إستراتيجية وسياسية واقتصادية..)، فراحت تميل إلى حشد الجهود الدوَّلية لِحُلفائها الغربيين والشرقيين لدعم سياساتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية العالمية بدلاً من القيام بها مُنفرِدة،علَّها تضمِنُ استمرارية هيمنتها الأُحادية على النظام الدولي ولو لسنوات قادمة،ولاسيما إِذا ما علِمنا إِنَّ مُكوِنات وعناصر القدرة التنافُسية للقوى البازِغة(الأوربية،الروسية، اليابانية،الصينية،الهندية،الخ..) بِتكتُلاتها الإقليمية الجديدة،قد ارتفعت إلى مستويات تستطيعُ مُجاراة نظيرتها الأمريكية والتغلب عليها في بعض الأحيان وإقامة نِظام تعدُدي الأقطاب،ما بات يؤكد صعوبة قيام الأنموذج الهرمي الذي تتربع الولايات المتحدة الأمريكية على رأسه.إزاء ذلك بدء المرء في حيرةٍ مِن أمره في وصف المدخل الأكثر تعبيراً عَّما جرى في العالم بعد تفكُك الاتحاد السوفيتي في1991،وقد يُعدل مِن النتائج التي يتوصل إليها لو ساير ما تم صياغته أو البوح به من حقائق التغيير الدولية.وربما ينفُر مِن مُمُارسة تطلعه إزاء التدفق السريع لوقائع الأداء الإستراتيجي والسياسي لِمُجرد عدم رؤيته للعائد الذي يتوقعه،بِحكُم ما يمرُ به العالم من تغيّيُرات تفضي إلى نوعٍ مِن التبدُل.فلقد تحدث الكُتاب في الماضي عن أن الثورات الصناعية وبعض التغيرات السياسية غيرت موازين القِوى،ورجحته لصالح دول جديدة،خاصةً بعد الحروب العالمية،بيد إن ما استجد على ما مضى هو تعدُد الدول المؤثِرة والفاعلة عالمياً، وارتفاع نسبة التكامُل بين مصالح الدول والشركات والأفراد،مِما يؤدي إلى تنامي عدد الأطراف المشاركة في اتخاذ القرار الاجتماعي-الاقتصادي،أو السياسي أو الأمني،ويترتب عليه وضع دولي جديد خالٍ من القطبية الثابتة المُستقرة إلى حدٍ كبير،ومُقاماً على تعدُدَّ مراكز القوة أو التأثير،مِما يمكن وصفه بانه تغير من القطبية إلى العالمية مع حدوث تجمُعات قطبية مُختلِفة موقوتة من آن لآخر،حسب المكان والزمان والحدث،مثل ما يُسمى تحالُفات الفكر المُشترك،كما في(الحرب على الإرهاب)..واتصالاً بِكُل هذه الأحداث،تغيرت الساحة الإستراتيجية الدولية،فلم تعد قائمة على قطبي حلف وأرشو والأطلسي،وظهرت دول نامية فاعلة،منها الهند، والبرازيل،وجنوب أفريقيا،فضلاً عن ظهور كيانات غير حكومية،مثل الشركات مُتعددة الجنسيات، ومُنظمات المُجتمع المدني والحركات الدينية،بل قوة ونفوذ الرأي العام المُحصن بالأدوات التكنولوجية الحديثة.امتد هذا التيار وتأثر كثيراً بالاحتياجات التنموية للدول والشركات خاصة بالنسبة للحاجة إلى الطاقة والموارد الطبيعية،وفتح الأسواق.فشهدت علاقات القوى الكبرى تغيُراً كبيراً وشراكات وتالفات إستراتيجية مع بعضها البعض ومع العديد من الدول في أقاليم العالم المُختلفة مُعَّولين في كُل ذلك على استثمار ظاهرة الإقليمية الجديدة بمنظوماتها وتكتلاتها وترتيباتها.وما اضر بالمنظومة الدولية الاقتصادية الجديدة عدم وجود نظام رقابي دولي، فحدثت تداعيات واسعة النطاق للازمة المالية الأمريكية والأزمة الاقتصادية الأوربية،في قارات عِدَّة وشتى..ويُمكن مِن كُل ذلك تأكيد حقيقة مفادُها؛أَنَّ الوضع الدولي تغير وسيظل يتغَّير،وان المنظومة الدولية أكثر تعقيداً لِتعدُد المُشاركين الرسميين وغير الرسميين فيها.