تكمن اهمية االدراسة في نطاقات ثلاث:
1- النطاق المكاني؛ اذ تعد منطقة المشرق العربي- وهي الحيز الجغرافي الذي تستهدفه سياسة تركيا الخارجية وفقا لعنوان الدراسة– مفصلا مهما تتمحور حوله السياسات الدولية والاقليمية, وذلك لاهميتها الاستراتيجية وموقعها في قلب تلك السياسات, بل لا مناص للوحدات الدولية ذات المكانة المرموقة من حيث التاثير الدولي او الساعية اليه,كما هو حال تركيا,الا ان تضعها في هذا المكان.
2 - النطاق الزماني؛ تعد المرحلة التي تحددت بها الدراسة, غاية في الاهمية بالنسبة الى تركيا, بدءا من فوز حزب العدالة والتنمية في انتخابات عام2002، ثم غزو الولايات المتحدة الامريكية للعراق واحتلاله عام 2003 وما افرزه هذا الاحتلال من تداعيات واستطالات دولية واقليمية ارغمت صانع القرار في انقرة على ان يتعاطى معها بجدية فائقة.
3- النطاق الموضوعي؛ تكتسب موضوعات سياسة تركيا الخارجية ذات العلاقة بمنطقة المشرق العربي وبمختلف ابعادها السياسية والامنية والاقتصادية اهمية مضاعفة اليوم. وعلى الرغم من العناية الشديدة التي توليها تركيا لشواغل المنطقة والقبول الذي تحظى به فيها , فانها في النهاية ليست مؤسسة خيرية, وتكمن وراء حركتها اهداف لا تتسق بالضرورة مع مصالح دول المنطقة ولا شعوبها. ومن ثم فهنالك جدوى من محاولة الخوض في سياستها الخارجية تجاه منطقة المشرق العربي. ولئن حظيت هذه السياسة باهتمام باحثين كثر قبل هذه الدراسة وما ستحظى به بعدها, فذلك لحيوية موضوعاتها وارتباطها المباشر والمستمر بمصير منطقتنا ووجودها. وانطلاقا من كل ذلك, جاء الاختيار للدراسة.
وتتوزع الدراسة على فصول اربعة, و مبحث تمهيدي؛ عالج تطور سياسة تركيا الخارجية تجاه منطقة المشرق العربي حتى العام 2002 ومقسماً الى ثلاث مراحل زمنية. واما الفصل الاول, فكان بعنوان؛ المتغيرات المؤثرة في سياسة تركيا الخارجية تجاه منطقة المشرق العربي، وبدوره توزع هذا الفصل على ثلاثة مباحث؛ تناول الاول المتغيرات الداخلية والثاني المتغيرات الاقليمية والثالث المتغيرات الدولية. اما الفصل الثاني, فحمل عنوان؛ عملية صنع سياسة تركيا الخارجية تجاه منطقة المشرق العربي, وتم تقسيمه الى اربعة مباحث، شمل الاول منها؛ ادوار سياسة تركيا الخارجية في حين اختص الثاني باهداف هذه السياسة ، وعالج الثالث؛ هياكل صنع سياسة تركيا الخارجية، فيما تناول الرابع وسائل تنفيذ هذه السياسة.
وبالانتقال الى الفصل الثالث؛ وهو السلوك السياسي الخارجي التركيا تجاه منطقة المشرق العربي ما بعد عام 2002، فقد اشتمل على اربعة مباحث ؛ تناول الاول السلوك السياسي الخارجي التركي تجاه دول الجوار الجغرافي (العراق وسوريا), اما الثاني؛ فقد تتبع تطورات هذه السياسة تجاه القضية الفلسطينية, فيما جاء الثالث؛ ليخوض في السياسة نفسها تجاه دول الخليج العربي, بينما جاء المبحث الرابع؛ عاكساً السلوك السياسي الخارجي التركي تجاه بقية دول منطقة المشرق العربي (لبنان والاردن واليمن). واخيراً, كان لا بد من طرح تصور مستقبلي لما ستكون عليه سياسة تركيا الخارجية تجاه هذه المنطقة في المستقبل المنظور، ومن ثم حمل الفصل الرابع عنوان؛ مستقبل سياسة تركيا الخارجية تجاه منطقة المشرق العربي. وبهذا الشكل استقرت هيكلية الدراسة. وقد توصلت الدراسة الى عدد من النتائج لعل اهمها:
- مع مجيء حزب العدالة والتنمية الى الحكم في تركيا وتجاوزه مشكلات الاحزاب العلمانية اليمينية بتبني الليبرالية الاقتصادية والخليط العلماني الاسلامي في خطابه السياسي، ومع فوزه الكبير في الانتخابات النيابية لثلاث دورات متتالية للاعوام 2002 و 2007 و 2011 وتشكيلة الحكومة بمفرده، تخلصت صناعة القرار التركي من مشكلة الائتلافات الحزبية وتجاذباتها المتبادلة، لصالح الانسجام الكبير بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، ومن ثم امتد اثر ذلك الى السياسة الخارجية، ليمنحها المزيد من الثقة وفاعلية الحركة مقارنة بالمرحلة السابقة لمجيء هذا الحزب, وعبرت عنها نخبة سياسية ذات رؤية استراتيجية تؤمن بدور تركي محوري اقليمي حقيقي, معتمدة الوسائل الدبلوماسية وصيغة توازن المصالح, واستثمار تطور تركيا السياسي والاقتصادي, والاستفادة من علاقاتها مع الوحدات الفاعلة دوليا ومن عمقها الجغرافي والتاريخي والثقافي العثماني, ولكن بنفس جديد ورؤية موضوعية, تدرك اثر التغييرات التي طرات في الساحة السياسية الدولية منذ نحو قرن, متجاوزة بذلك دور العسكر الذين افتقدوا الجراة لقيادة هذا الدور طوال مدة هيمنتهم النسبية على السياسة التركية في الحقب السابقة. 2- ترتدي تركيا على صعيد سياستها الخارجية ومنذ نحو عقد من الزمان؛ حلة جديدة- اذا جاز التعبير- وهي التوجه الفاعل نحو منطقة الشرق الاوسط ومنها المشرق العربي, وهذه ليست مجرد رغبة راودت قادتها بل هي خيار استراتيجي دفعت لارتدائه تحولات عالمية واقليمية غاية في التعقيد بدءا بتفكك الاتحاد السوفيتي مرورا بحرب الخليج الثانية, ثم عززت الحاجة اليه حالة احتلال العراق ونتائجها, وفيما بعد الثورات العربية. فالحلة السابقة (الابتعاد عن الشرق والتوجه نحو الغرب) اصبحت بالية بعد افول الحرب الباردة التي دفعت لارتدائها, فكان لابد من التغيير لان السكون مدعاة للتراجع ما سيترتب عليه تعرض الوجود التركي برمته للضعف وخطر التجزئة.
3 - تمثل العثمانية الجديدة والتحدي الكردي ومنطق المصالح الاقتصادية؛ متغيرات رئيسة تفسر الى حد ما النشاط السياسي والتحول التركي الجديد نحو منطقة المشرق العربي والشرق الاوسط عموماً؛ فالعثمانية الجديدة تؤمن بدور تدخلي تركي خارج الحدود يهدف الى تعزيز النفوذ الاقليمي، في مقابل نهج كمالي يهدف الى بناء امة علمانية وقومية تركية من خلال مشروع سياسي قومي وعلماني تحديثي رافض للتعددية الثقافية, اما التحدي الكردي فهو محدد رئيس في سياسة تركيا الخارجية لما يشكلة من خطر امني وسياسي واستراتيجي على تركيا بل وامكانية استخدام هذا التحدي من لدن خصومها كورقة ضغط على صناع قرارها السياسي. اما منطق المصالح الاقتصادية, فالثابت ان هناك "عشقا" اقتصاديا متناميا لمنطقة المشرق العربي, وهو وان لم يكن ممنوعا في الحقب السابقة الا انه اخذ هذا الوصف بعد تسنم حزب العدالة والتنمية الحكم, الذي عد تعزيز التعاون الاقتصادي بين اقطار المنطقة من اسس السلام والاستقرار فيها, ما دفع الى تجاوز المحظور بالمساهمة في ارساء البنى التحتية لكردستان العراق, وان كانت هذه "المجازفة" تخفي وراءها اجندة تركية تلتحف بالعثمانية الجديدة.
4- لقد ادرك الاتراك اهمية القضية الفلسطينية لبلوغ التاثير الاقليمي، بسبب مركزية هذه القضية اقليمياً ودولياً. وفي حقيقة الامر لم يكن الاتراك وحدهم من حاول استخدام هذه الورقة فقد سبق للعراق وسوريا وايران ومصر ان فعلوا الشيء نفسه، الا ان مقاربة الاتراك لها تبدو اكثر حنكة واستقراراً؛ فبينما دعمت دمشق وطهران الاذرع العسكرية للفصائل الفلسطينية كحركة حماس وعولت عليها، عالجت انقرة القضية من جوانبها السياسية والانسانية بشكل اكثر شمولاً وحيوية؛ فحاولت ان تكون عنصر تقارب بين الفلسطينيين من جهة وبينهم وبين الإسرائيليين من جهة اخرى, وهي بذلك تحظى برضا الفاعلين الدوليين بينما تعاني دمشق وطهران سخطهم. 5- ان حرص قادة حزب العدالة والتنمية الحاكم على الخطاب السياسي المتوازن عند تاكيدهم؛(ان توجه تركيا الجديد تجاه منطقة المشرق العربي وعموم الشرق الاوسط لن يكون بديلاً عن توجهها نحو الغرب ولن يؤثر عليه)، ففي ذلك مغالطة؛ لان اصرار تركيا الشديد على دخول البيت الاوربي كان على حساب علاقاتها مع الشرق وابتعادها نحو قرن من الزمان عنه الا بصفتها وكيلة للمصالح الغربية فيه, ومن ثم فان توجهها الجديد سيؤثر على مستقبل خيارها الغربي بشكل او بآخر, اذ تعد مشاكل الشرق الاوسط اضافة الى العامل التاريخي والثقافي من ذرائع الاوربيين في رفضهم عضويتها في اتحادهم حتى هذه اللحظة.