منذ نشوء المجتمعات الإنسانية تفاعل المدرك الفردي مع المدرك الجمعي لتنظيم الجهود لتغيير البيئة المحيطية والسيطرة عليها بعد اختيار أو انتخاب القيادة ، فتكونت الجماعة السياسية الأولى المجتهدة لإحداث التغيير الذي يعدُّجوهر النظام الثقافي للشعوب في التكيف مع البيئة المحيطية لتطويرالحياة البشرية، ولإشباع الحاجات الأساسية للأفراد والجماعات جاء النظام الاقتصادي لتقسيم الأعمال وتنظيمها وتبادل الحاجات والسلع،ولأن طوعية وتلقائية وغريزية العلاقات البشرية الأسرية والإقتصادية والثقافية تحتاج إلى التهذيب والانضباط في آكتساب المعارف والرعاية البدنية،فجاء النظام الأخلاقي والتعليمي والصحي لبقاء حياة الجماعة .وهذه الأنظمة المجتمعية جميعها تحتاج إلى الحماية والسلطة السياسية للإشراف على تناغمها وتناسقها وتطويرها في الحيز الجغرافي الذي يشغله المجتمع الذي دفعته الحاجة المجتمعية إلى إنشاء النظام السياسي منذ حقبة المجتمعات البدائية الطوطمية مروراًبالمدينة والدولة القديمة ودول الإمبراطوريات الأولى والحديثة ثم الدول القومية المعاصرة التي عرفها العالم منذ القرن السابع عشر، فلا تكتمل الدراسة التأريخية لحركة التطور السياسي الحضاري للدولدون الوقوف عند دراسة مضمونهاالإجتماعي ، كذلك لا يمكن دراسة القوة أو الضعف في الدول بعيدا عن دراسة طبيعة قوة ديناميكية المجتمع فيها أو ضعفه . كما إنَّ تحليل ظاهرة عالمية الدولة التي عرفها العالم قديما وحديثا لا تتم دون دراسة عالميةالمجتمعات ، فالمجتمع المتفوق هو الذي ينتج دولة متفوقة ، والمجتمعات المتخلفة تنتج دولاً ضعيفة متخلفة ، من هنا تمثل دراسة مجتمعية الدولة كمدخل لفهم آجتماعية السياسة لتفسير تباين نتائج تفاعل السلوك السياسي والإقتصادي داخل الهرم الاجتماعي بين الدول.آجتماعية السياسةركيزة أساسية لتنظيم السلطات بين الأنظمة المجتمعية المختلفة والنظام السياسي بغض النظر عن طبيعته،ولايمكنهُالاستغناء عن النظر من تلك النافذة المطلة على دينامكية المجتمع التي تبعث رسائل لرسم السياسات العامة لتحديد الأهداف العليا للمجتمع .إنَّ عملية الترابط الحر المستند على توازن الحقوق والواجبات والحريات يجعل من عملية التفاعل ما بين القابعين على السلطةالسياسية والمنفذين لأوامرها والخاضعين لها عملية تصب في صالح تجديد دور العاملالإجتماعيفي صنع آقتدار متجدد يخدمالإستراتيجيات الشاملة، وينحصر هذا الدور ويتراجع في أنظمة الحكم الإستبدادية والطبقية لصالح قمة الهرم الإجتماعي فقط بالشكل الذي يجعله عاجزا عن تقديم التجديد والتطوير للإستراتيجية القومية الشاملة.
العامل الإجتماعييلتقي مع الفكر الإستراتيجي الذي يدفع الأفراد والجماعات إلىالتجمع على أساس السبب الكامن وراء التجمع وهو خلق القوة المتجددة الفاعلة لتحقيق المصالح والمنافع ، ويلتقي معه أيضا من خلال إنضاج الثبات الإدراكيPerceptual Constancy للفرد والجماعة لضمان الصياغة المستقرة للأهداف والوسائط الموائمة لتحقيقها في عالم معقد ومتنوع ومتغير باستمرار بل تكاد تكون خاصية التغيير فيه هي الثابت الأزلي. إنَّعملية التنظيم الإدراكي Perceptual Organizationللقوى والرموز المجتمعية تناغم الأفعالالفردية والجمعية لبناءقوة مجتمعية عملية موضوعية تحلل المثيرات المحلية والإقليمية والدولية لوضع التخطيط السليم لحماية المجتمع وتطوره من خلال الاستراتيجيات القومية الشاملة المعبرة فعلا عن القوة الحقيقية من ناحية حجمها ونوعها وتجددها وآقتدارها . فالدولة في إطارها المجتمعي الفاعل المتحرك وصفت بالكائن الحي الذي ينمو ويتمدد بنمو المجتمع واتساعه صوب أراضي جديدة تحتضن هذا النمو والاتساع ، والمجتمع مع الأرض التي يشغلها هما معلما وراعيا الفكر الإستراتيجي.وإن معالجة تحديد وتفعيل الدور المجتمعي في تخطيط الإستراتيجية الشاملة وتنفيذها بجميع فروعها يأتي بالتفاعل مع الخصائص والسمات المجتمعية التي تكونت بعمق التاريخ والقدرة على التكيف مع المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية، ويقيس المنطق الإستراتيجي الذي يبدأ من الواقع وينتهي إليه ضعف وتخلف أو قوة وفاعلية الدور المجتمعي من خلال أساليب دقيقة لتحليل عناصر القوة المعروفة .وثمة علاقات بين قوة الدولة الشاملة مع حيوية موقعها الجيوسياسي، ومع حجم وفاعلية جغرافيتهاالإقتصادية،ومع حجم وفاعلية قوتها العسكرية والسياسية والدبلوماسية والإدارية والمالية والإعلامية والثقافية والمعلوماتية والأمنية الأحادية أو المتحالفة ، بيد إنّ العامل الإجتماعي في كل هذهالعلاقات يشكل الترابط الأساسيلديناميكية وتيرة نمو حجم القوة والثروة ونوعها وتحويلهما من وضع السكون إلى الوضع الحركي المؤثر،وهذا التواصل بالنمو لا ينفصل عن تلك الإرادة القومية أو الوطنية أو الإنسانية التي تميز الشعوب في خصائصها، فعندما تكون الكتل البشرية المؤلفة للمجتمع مؤسسة على تآزر الأفراد ضمن أنساق ونظم منضبطة ومتناغمة عالية الكفاءة والإقتدارفإنها تحقق الأهداف المتفق عليها ويتعاظم دور العامل الإجتماعي في التغيير والتجديد والتطوير . ومن جهة أخرى عندما تكون الكتل البشرية المؤلفة للمجتمع متصارعة تسودها ثقافة التعصب والتخلف وغياب الإرادة الواضحة إذيرتب آرتفاع مستويات التهديدات الداخلية والخارجيةفينحصر دور العامل الإجتماعيويتراجع، وتكون الدولة عرضة لآستقطاب هيمنة المجتمعات الأكثر تفوقاً.
إنّ مراكز التفوق المجتمعية العالمية اليوم أقل مما كانت عليه في معظم فترات التأريخ ، ويلعب النظام السياسي فيها دوراً مهماً في إدارة التفاعل الإجتماعي نحو التقدم. والكل يحتاج الوقتالقادم لآكتساب أكبر قدر من القوة الشاملة . الصين الحديثة التي تسابق الزمن في تطورها الإقتصادي ، والإتحاد الأوربي الذي يضم تحت مظلته سبعة وعشرين دولة قومية يجتهد بتسارع ليعيد حلم الإمبراطورية الأطلسية ، وروسيا الإتحاديةالتي انتهت من عمليات إعادة بناء البيت الروسي ماضية بتحالفاتها مع الإقليمية لتنطلق من أسس جيوبولتيكية جديدة صوب قوة عالمية فاعلة ، والولايات المتحدة التي عجزت لغاية اليوم عن مليء فراغ قيادة السلطة العالمية، وأضحى الخلط بين حضورها العسكري الأكبر في العالم من جانب ورغبتها في الهيمنة الأحادية على العالم من جانب آخر معادلة صعبة ستعمل خلال العقدين القادمين لإصلاح الخلل في هذه المعادلة.يطرح الباحثون الإستراتيجيون في داخل الولايات المتحدة وخارجها تصورات مفادها أنَّ الإستراتيجية الأمريكية الشاملة اليوم عاجزة عن تقديم الإقتدار الكافي لإحكام السيطرة على إدارة السلطة العالمية، لوجود تراجع في مستويات القوة الداخلية في إطارها المجتمعي السياسي ، والبعض منهم يطرح رؤى إستراتيجية تعالج هذا الخلل بالعودة إلى داخل الجسم الإجتماعي الأمريكي للحصول منه على القوة المتجددة بعد القيام بجملة من التغييرات والترتيبات للمحافظة على المكانة العالمية الريادية للولايات المتحدة الأمريكية، السؤال هنا ، هل تنجح الولايات المتحدة في تجديد دور العامل الإجتماعيبالتكامل مع الأدوار الأخرى في إنتاج آستراتيجية شاملة تحقق الريادية العالمية وتحافظ عليها ؟ الجواب يكمن في فهم طبيعة الدور الإجتماعي الأمريكي وإعادة تحليل البيئة الداخلية الأمريكية وتقييمها، وتفاعلاتها مع البيئة الخارجية .
العامل الاجتماعي ودوره في صنع الاستراتيجية الامريكية الشاملة
number:
1762
Arabic
College:
department:
Degree:
Supervisor:
أ . م . د حسون جاسم العبيدي
year:
2014