عادة ما أرتبط كل تحرك للولايات المتحدة الأمريكية في مختلف مناطق العالم بمقولة دعم الأمن والاستقرار الدولي، حيث تجد الولايات المتحدة في هذه المقولة هدف بحد ذاته خاصة في المناطق ذات الأهمية للإستراتيجية الأمريكية، إذ يندمج تصور أهمية المنطقة الإستراتيجية للولايات المتحدة مع وجود التهديد بالمنظور الأمريكي لينتج عنه تحرك أمريكي مباشر لمواجهة التهديد أو تحرك غير مباشر وذلك عبر الحلفاء، ومن هنا يصبح تحقيق هذا الهدف ذا أهمية لا لتحقيق الأمن والاستقرار بحد ذاته، وإنما لضمان استقرار المصالح الأمريكية وحمايتها وساد هذا الاتجاه طول الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية وحتى مطلع القرن الحادي والعشرين. إلا أن تبدلاً حدث في إستراتيجية الولايات المتحدة إذ بدأت التعامل مع مفهوم من المتوقع أن يسود القرن الحادي والعشرين ألا وهو الديمقراطية وحتى ألان تتعامل الولايات المتحدة مع تهديدات منبثقة من النظام الدولي, إلا أنها ليست إلا اختبارات قد تكون جوهرية، تمثل قبل كل شيء استعداداً لمرحلة قادمة وفرصة نادرة للولايات المتحدة في ظل متغيرات تعيد تحديد معالم النظام الدولي، فبدأت الولايات المتحدة الأمريكية بتطبيق إستراتيجية هدفها توظيف الديمقراطية كفكرة وأداة لتساعدها على انتهاز الفرص من اجل إرساء أسس تدعم وتقوي المصالح الأمريكية في كل الاتجاهات فعبر هذه الإستراتيجية تستطيع الولايات المتحدة تقويض وإنهاء ما تعتبرها دولاً فاشلة Failed States ومن ثم سيادة عالم من الحرية في ظل القانون لان عالما من الديمقراطيات سيكون عالما أفضل (من وجهة نظر الولايات المتحدة) وأكثر أماناً بالنسبة للأمريكيين ولكل الدول اللبرالية, وهكذا عالم من أهم أهداف الولايات المتحدة واهم مصالحها. إن صياغة عالم من الديمقراطيات تسوده الحرية في ظل القانون يعني تفهم دور القوة في ترسيخ القانون وفرض النظام لانتعاش الديمقراطية والحرية ومن ثم سيتغير مفهوم استخدام القوة عالمياً من الاستخدام المتعسف والذي تسبب في قتل الملايين عبر التجارب السابقة الى القوة التي تدعم النظام وتحقق العدالة ويجب في هكذا نظام وجود قوة تقوم بعملية الضبط للقوى الديمقراطية بما يؤمن استمرار مسيرة الديمقراطية وتطورها ومن أهم مهام هذه القوة:
- إدارة علاقات القوة المركزية في عالم تتغير موازينه وهرميته الدولية وتوجهها وتشكيلها وتقوية التطلعات القومية لتمكين نشوء نظام عالمي أكثر تعاوناً.
- احتواء النزاعات أو إنهاؤها والحؤول دون الإرهاب وانتشار أسلحة الدمار الشامل وتعزيز حفظ السلام الجماعي في المناطق التي فرقتها الحروب الأهلية بحيث يتراجع العنف العالمي بدلا من أن ينتشر.
- التعامل بفعالية اكبر مع تزايد انعدام المساواة في الشروط الإنسانية والتوافق مع الواقع الجديد (للضمير العالمي) الناشئ والعمل على رد مشترك على التهديدات البيئية والايكولوجية الجديدة لخير البشرية.
لذا سعت الولايات المتحدة وعبر إستراتيجية شملت العالم كله إلى توظيف فكرة الديمقراطية واستثمار مخرجاتها بما يتواءم وتحقيق المصالح الأمريكية أولا ومصالح حلفائها ثانيا بعدها الدولة القائدة والقوى المتفردة في النظام الدولي في عالم اليوم. واستثمرت الولايات المتحدة الاتساع الملحوظ للمطالبة بالتحول الديمقراطي إذ بدأ الإنسان يدمج ما بين الديمقراطية وما بين تحرره ونهاية الجهل والتبعية فعدها الوسيلة التي تدفع بالمجتمع قدماً إلى الإمام من النواحي الاقتصادية والسياسية والثقافية وتحريره من إيديولوجيات الدول الشمولية والوصول إلى الحرية السياسية والتسامح الثقافي والسعادة الشخصية. ففكرة الديمقراطية تسمح بإقامة المناقشات والحوارات الرشيدة واتخاذ القرارات العقلانية ولان الديمقراطية تستند على حقيقة إن الإنسان كائن أخلاقي لذا فان احترام أراء الآخرين واحترام الأديان والحقوق الفردية هي من أهم قيمها بالإضافة إلى المساواة أمام القانون بدون التمييز بين الإفراد أو الطبقات وتحت أي مسمى كما إن الديمقراطية تنمي الوعي بالسلوك الذي يخدم الصالح العام ويحقق الأهداف العليا للمجتمع، لهذا احتلت فكرة التحول للديمقراطية المرحلة الأولى في وعي الطبقات الوسطى حتى إن المطالبة بالديمقراطية تعدت تلك الدعوات التي تنادي بالتحرر الوطني؛ وذلك لان:
- الكثير من الطبقات السياسية الحاكمة فاقدة للشرعية.
- طبيعة التنازع على السلطة.
- تأثير الجوانب الثقافية والنفسية.
أن توظيف فكرة الديمقراطية فتح أفقاً إستراتيجياً جديداً للولايات المتحدة, فإذا ما أرادت أن تبقى قويّة, فعليها أن تنتبه إلى قوّتها الثقافية والإيديولوجية فضلا عن القوّة العسكريّة والقوّة الاقتصاديّة والتي يمكن استعمالها لإقناع الآخرين بتغيير مواقفهم وتحركهم، اذ هناك أيضا طريقة أخرى وغير مباشرة لاستخدام وممارسة القوّة، فبإمكان دولة أن تحصل على النتائج التي تريدها لأنّ الدول الأخرى تريد اللّحاق بها وإتباعها إعجابا بقيمها أو تقليدا لنموذجها أو تطلّعا للوصول إلى مستوى ازدهارها ورفاهها وانفتاحها. في هذا الاتّجاه, من الأهميّة بمكان أن تضع للولايات المتحدة إستراتيجية لجذب الآخرين إليها، كما وتجبرهم على التغيير من خلال التهديد أو استعمال القوّة العسكريّة أو الآليات الاقتصاديّة. هذا المظهر أو الجانب من القوّة (جعل الآخرين يريدون ما تريد أنت) هو ما بات يعرف بالقوّة الناعمة (الليّنة) هذه الطريقة التي تكسب الناس بدلا من إجبارهم. وعبر إستراتيجية توظيف فكرة الديمقراطية وبأستخدام القوى الناعمة تلك بدأت الولايات المتحدة بتكوين حلفاء لها في مختلف مناطق العالم حيث نجد تشابك المصالح التي تخلق إرادة مشتركة وحركة واحدة تجاه القضايا حتى باتت الولايات المتحدة تعتمد على الحلفاء عبر إستراتيجية منظمة تقوم على تقديم الدعم السياسي والمساعدات العسكرية والاقتصادية لتحقيق الأهداف المشتركة ومن هنا ارتبط امن الحلفاء بأمن المصالح الأمريكية وأصبح التهديد الموجه لأي حليف موجهاً للمصالح الأمريكية ولهذا التزمت الولايات المتحدة بأمن هؤلاء الحلفاء حفاظاً على مصالحها تلك طالما أنهم يعملون بأتجاه يخدم المصالح الأمريكية، وأصبح من أهم أهداف الأمن القومي الأمريكي درء أي عدوان يمكن أن يهدد أمن الولايات المتحدة وحلفائها ويتم ذلك عن طريق إدامة توازنات عسكرية إقليمية لردع أي قوة تحاول الهيمنة على مصالح الولايات المتحدة أو تهدد حلفاءها. ولتحقيق هذه الغاية انطلقت الولايات المتحدة في تطبيق مشاريع لتحقيق الأهداف ومن أهم المشاريع في هذا الإطار هو الشرق الأوسط الكبير وعملية التحول الديمقراطي في الأنموذج العراقي بالإضافة إلى تشجيع التحول الديمقراطي، ودعم عمليات التحول تلك وعبر مؤسسات أمريكية متخصصة بالتحول الديمقراطي، مؤسسات رسمية مرتبطة بالإدارة الأمريكية ومؤسسات غير رسمية تعمل في إطار المجتمع المدني العالمي بالإضافة إلى توظيف المنظمات والمؤسسات الدولية الواقعة تحت النفوذ الأمريكي للمساهمة في عمليات التحول ونشر الديمقراطية عالمياً. تصاعدت أهمية إستراتيجية التوظيف الأمريكي لفكرة الديمقراطية ضمن الإستراتيجية الشاملة للولايات المتحدة، فالدولة الزعيمة للعالم الحر وذات القوة المتفردة والامتيازات الواسعة تخوض في الوقت الحاضر صراعاً لنشر الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان، حتى بدأت تشكل هذه الإستراتيجية حالة اختبار للقيادة العالمية للولايات المتحدة, وهو ما سيحدد فيما بعد موقعها في النظام الدولي في خلال العقود القادمة من الزمن. من هنا تغيرت دعوات الولايات المتحدة في العقدين الأخيرين من دعم الأمن الاستقرار الدولي إلى نشر الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان والحرية والعدالة والدعوة إلى المساواة العالمية، وذلك باستخدام كل القدرات والإمكانيات الإستراتيجية الذاتية والمكتسبة وعبر آليات محددة للوصول للأهداف وتحقيق الغايات المناطة بهذه الإستراتيجية وبغض النظر عن الحقيقة الكامنة وراء الدعوات الأمريكية هذه فأن التغيير المذكور يؤشر جانباً من أهمية الموضوع الذي انصرفت إليه الأطروحة.من خلال ما تقدم تتضح أهمية دراسة إستراتيجية التوظيف الأمريكي لفكرة الديمقراطية بشقيها النظري والتطبيقي ولاسيما ما ارتبط وطبيعة التغير السريع والمتواتر للإستراتيجية موضوع الدراسة. ربما الإستراتيجية الأمريكية قد حضيت بالاهتمام بكل تفرعاتها إلا أن صفة التغير والتبدل والتجديد فيها وسرعة وتفاعل المتغيرات داخلها وكثر متغيراتها وتأثيرها المباشر على المنطقة العربية بشكل عام والعراق بشكل خاص، يدفع الباحثين دوماً إلى دراسة مستجدات هذه الإستراتيجية لمواكبة تطوراتها ودراستها وتحليلها بما يغني الجهد الأكاديمي أولا والحقل المعرفي ثانياً, ولعل هذه الدراسة بإنقسامها إلى جانب نظري وآخر تطبيقي إنما انطوت على هدفين أساسيين:
1. القسم الأول من الدراسة، هو القسم النظري، ويعالج ما يمكن أن يسمى بالنظرية العامة بمعنى تحديد المنطلقات الفكرية التي صاغت هذه الإستراتيجية وكونت وكاملت المنطلقات الإيديولوجية لها ومن ثم الأسس التي تطورت بها الإستراتيجية الأمريكية عبر معالجة الشواهد والمتغيرات التي تضمنتها الإستراتيجية وتحديد أهدافها وإمكانياتها واليات عملها. 2. القسم التطبيقي، وأريد به متابعة ما هو نظري في المجال التطبيقي له، حتى لا تقتصر الدراسة على البعد النظري، ومن ثم دراسة الجانب التطبيقي، نشأته ومنحى تطوره ومتابعة المتغيرات المرافقة له وتحديدها ودراستها وصولا إلى الأهداف التي تحرك الإستراتيجية الأمريكية ومن ثم طبيعة المشاهد المستقبلية التي ستحكم تطبيق إستراتيجية التوظيف الأمريكي للديمقراطية.
توظيف فكرة الديمقراطية في الإستراتيجية الأمريكية.
number:
1115
Arabic
College:
department:
Degree:
Supervisor:
الدكتور سرمد زكي الجادر
year:
2010