لقد شكّل الاحتلال الأمريكيّ للعراق عام 2003 ، منعطفاً مهماً في تاريخ العلاقات السياسية الدولية والإقليمية من حيث المدلول السياسي ، وكذلك من حيث تداعياته المرحلية والمستقبلية على نسيج العلاقات بين دول الإقليم التي لها مصالح إستراتيجية مهمة في العراق ، إذ تحوّل العراق بعد الاحتلال الأمريكي إلى ساحة مكشوفة لممارسة الحرب الساخنة والباردة بين الولايات المتحدة ومن لديهم مصالح مباشرة وغير مباشرة في العراق ، لاسيّما من الدول المتاخمة لحدوده أو تلك التي ترتبط معه بمصالح سياسية أنية ومستقبلية ، فقد تم تدويل الملف العراقي للبحث عن وسيلة لدرء التهديد المنبعث منه، وأخرى حاولت التأثير فيه لتعضيهم مكاسبها وإدخالها كطرف في المعادلة ، وأخرى حاولت تصفية حساباتها مع خصمها الولايات المتحدة بلعبة النار والقتل ، وأخرى لعبت دورا داعما وساندا لتنفيذ إستراتيجية الولايات المتحدة. وهو ما يدفعنا إلى طرح تسأول رئيسي هو:(كيف أضحت الإستراتيجية الأمريكية في العراق من 2003/ 2011؟ وما هي ابرز المتغيرات الإقليمية التي أثرت في تنفيذ تلك الإستراتيجية ؟) وللإجابة على هذا التساؤل ، انطلقت الدراسة من فرضية قوامها ( أن مصالح الدول الإقليمية في العراق تتعدد وتتباين في تأثيرها في الإستراتيجية الأمريكية تبعاً لمدى التطابق بين مصالح تلك الدول في العراق وأهداف تلك الإستراتيجية). وانطلاقا من إشكالية الدراسة وفرضيتها تم توزيع هيكلية الدراسة على ثلاثِ فصولٍ ، فضلاً عن مقدمة وخاتمة تضمنت الاستنتاجات التي توصلت إليها. فالفصل الأول جاء عنوانه : تطور الإستراتيجية الأمريكية حيال العراق بعد الحرب الباردة ، أما الفصل الثاني فهو : الإستراتيجية الأمريكية الشاملة في العراق 2003/2011 و الفصل الثالث : المتغيرات الإقليمية المؤثرة في الإستراتيجية الأمريكية في العراق 2003/2011م .
أما ابرز الاستنتاجات التي توصلت إليها في الدراسة هي :
إن احتلال العراق لم يكن اعتباطاً أو لتحقيق الحرية للشعب العراقي كما زعمت الولايات المتحدة ، وإنما جاء من أجل أهداف هي في غاية الأهمية الإستراتيجية ، عبّر عنها بستراتيجية شاملة طبقتها الولايات المتحدة في العراق بعد 2003 م، على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية.
1- تعزيز وتشجيع التمفصل على أساس عرقي وطائفي عبر إنبات بذور الحرب الطائفية . وهكذا بدلاً من مبدأ المواطنة كأساس دستوري ينظم الروابط بين السكان ويعيد تعريفهم بصورة عصرية تتلائم مع متطلبات التحول الديمقراطي المزعوم حل مبدأ الانتساب إلى الطائفة والعرق كأساس وبديل سياسي . حيث بدأ الأمريكان بعد 2003م يعيدون تعريف العراقيين ليس بوصفهم شعباً واحداً ، وإنما بوصفهم كتلاً سكانية مبعثرة لا رابط وطني بينها .
2- أنَّ مفهومَ الديمقراطية التي أرادت الولايات المتحدة تسويقه للعراقيين كان يعني أن يصوّت المواطن العراقي لطائفته وقوميته بدلاً من أن يصوّت لوطنه وهو بلا شك من أخطر ما واجهه المجتمع العراقيّ وإن أصبحت وحدته الوطنية على محك التقسيم والتفكيك .
3- نجحت الولايات المتحدة في ظل هذا النظام " الديمقراطي " المزعوم من تمرير العديد من القرارات والتشريعات والقوانين التي تخدم مصالحها عبر افتعال الأزمات وتعميق ظاهرة الانفلات الأمني وسياسة البطش والقوة العسكرية في معظم مدن العراق ، وهو ما أدى إلى انعدام ثقة المواطن بالدولة ذاتها .
4- السيطرة والتحكم بالنفط العراقي ضمن إستراتيجية أوسع ، لتأمين حصولها على النفط وفقاً للشروط التي تدعم نموها وازدهارها الاقتصادي ، والتأثير على الاقتصاد العالمي وقطع الطريق على أوربا والقوى الآسيوية الصاعدة كالصين واليابان التي تسلك سلوكاً مخالفاً للمصالح الأمريكية ، ورسم حدود هذه القوى عبر التحكم في إمداداتها النفطية.
5- خصخصة الاقتصاد العراقي وتشجيع الاستثمارات الأجنبية في العراق، وجعله حكراً لشركاتها في المقام الأول.
6- إعادة تشكيل جيش عراقي جديد يختلف عن الجيش السابق في منطقاته سواء في الأساس العقيدي أو في تنظيمه وتجهيزه وتسليحه ،إذ يكون أشبه بشرطة وطنية هدفه الحفاظ على الأمن الداخلي بدلاً من أن يكون قوة عسكرية ضاربة قادرة على حماية حدود الوطن والدفاع عنه.
7- إقامة قواعد عسكرية دائمة الوجود في العراق ، لاسيّما بعد ما منحها العراق حركة دائرية (360) درجة في الاتجاهات كلها من دون الحاجة إلى مساندة إقليمية بشكلٍ يسهم في تطويق دول محور الشر ( سوريا ـ إيران ) ، فضلاً عن إعادة رسم خطط انتشار قواتها في المنطقة ، إلا إن حقيقة إعادة صياغة هذه الإستراتيجية أصبح أمراً لا مفرَّ منه بعدما برزت مجموعة من المعطيات دفعت في هذا الاتجاه ، أبرزها الخسائر البشرية والمادية التي تكبدتها قوات الاحتلال في ظل المعارك الشرسة مع فصائل المقاومة العراقية المسلحة أو بسبب ما أصاب اقتصادها من أزمة خانقة شكلت دافعاً مهماً إلى للتراجع عن فكرة إقامة قواعد عسكرية دائمة والبحث عن بدائل أُخرى مثل ( الانسحاب المشرف ) ولكن بشكل لا يترك العراق خالٍ من الوجود الأمريكي ، بل بصيغ ومسميات أُخرى مثل مستشارين ومدنيين أو دبلوماسيين في السفارة الأمريكية التي يراد منها أن تمسك بالشرق الأوسط .
أن هذا الأمر (الاحتلال وإستراتيجيته الشاملة) بعث رسائل كبيرة لدول الجوار الإقليمي ، منها أن السيناريو الأمريكي سيطالها وأن الديمقراطية وحقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب سيكون في صلب توجهات الولايات المتحدة لبناء أنموذج الشرق الأوسط الكبير؛لذا حاولت دول الجوار ( المتغيرات الإقليمية ) تحييد الطوفان الأمريكي الذي اجتاح العراق ومنع انتقال عدواه وتداعياته إلى حدودها عبر التأثير في الإستراتيجية الأمريكية في العراق بشكل مباشر أو غير مباشر (سلباً أم إيجاباً) فالتأثير المباشر جاء عبر التصادم والالتقاء مع سلوك الولايات المتحدة في العراق ، أما غير المباشر فجاء من خلال التغلغل والنفوذ داخل البيئة الداخلية العراقية بقصد إفشال المشروع الأمريكي أو بقصد تحقيق مصالحها الذاتية ، وهذا الأمر انسحب على المتغيرات الإقليمية العربية منفردة أو مجتمعة ضمن إطار جامعة الدول العربية ، أو المتغيرات الإقليمية غير العربية ( تركيا ـ إيران ) ، فضلاً عن وجود متغير إقليمي مؤثر ومهم وداعم في الوقت نفسه ( المتغير الإسرائيلي ) .
1- المتغير التركي: لعبِت دوٍر كبيرٍ في دعم تنفيذ الإستراتيجية الأمريكية في العراق في حل معضلتها جراء تصاعد الهجمات المسلحة ضد القوات الأمريكية ودعم العملية السياسية في العراق وبالشكل يخدم مصالحها وأهدافها في العراق ، وهي عديدة منها سياسية : لضمان عدم انفصال كردستان ، ورغبةً منها لموازنة النفوذ الإيراني في العراق فضلاً عن البحث عن دور أكثر تأثيراً لملء الفراغ بعد الانسحاب الأمريكي من العراق، واقتصادية : لحاجتها للنفط العراقي وفي الوقت نفسه لعبت تركيا دوراً آخراً في العراق ، مما عكّر صفو علاقتها مع الولايات المتحدة لاسيّما بعد اختراقها الحدود العراقية مرات عدة بحجة مطاردة عناصر حزب العمال الكردستاني ، ودورها في دعم أقلية معينة وحرب التصريحات مع الأكراد ، والذي لعب دوراً كبيراً في حدوث بعض التوترات في علاقاتها مع القوى الكردية خاصة ، والحكومة العراقية عامة.
2- المتغير الإيراني : أصبحت إيران بعد الاحتلال رقماً صعباً في معادلة الأوضاع في العراق لاسيّما أن النظام الجديد اعتمد على قوى سياسية لها روابط قوية بالنظام الإيراني لكنها لم تكن على استعداد لتقبل فكرة تواجد القوات الأمريكية على حدودها الجنوبية ، وهنا سعت إيران إلى توظيف هذه الفرص والمخاطر عبر اللعب كمتغير كابح لتنفيذ الستراتيجية الأمريكية في العراق بقصد إفشال المشروع الأمريكية في العراق ، وذلك لإبعاد الخطر الأمريكي وآلته العسكرية ،وترافق ذلك مع دعمها بتنفيذ جزء من الستراتيجية والمشروع الأمريكي فيما يتعلق بدعم العملية السياسية ، فكانت أول دولة تعيد علاقاتها الدبلوماسية مع العراق وتفتح لها سفارة في بغداد ،بشكل يتفق مع مصالحها وأهدافها في العراق ، وهي عديدة منها سياسية : وصول حكومة عراقية موالية لها إلى سدة الحكم في العراق ، وعدم توظيفها كأداة للصراع مع الولايات المتحدة ، واقتصادية : تأمين الاستثمارات اللازمة في العراق .
3- المتغير الإسرائيلي: كان المتغير الإسرائيلي داعم ومساند في تحقيق الستراتيجية الأمريكية في العراق على المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية كافة بحكم كونها الحليف الإستراتيجي الأول للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة وبحكم مصالحها وأهدافها وهي أيضاً متعددة منها سياسياً : إبعاد العراق الجديد عن الصراع العربي_ الصهيوني وإدخاله طرفاً في التسوية السلمية ، واقتصادياً : حاجتها إلى النفط العراقي التي كانت تحلم دائماً بأن تتقاسمه مع العرب.
4- المتغير العربي: لقد اقتصرت قمم الجامعة العربية على المطالبة باتخاذ الإجراءات اللازمة لإنهاء الاحتلال وانسحاب القوات الأمريكية ، والتأكيد على احترام وحدة وسيادة العراق والترحيب في إجراء الانتخابات العراقية والدعوة لعقد مؤتمر للمصالحة الوطنية ، انسياقاً مع الدعوات الأمريكية لهم لموازنة النفوذ الإيراني في العراق . أما على مستوى دول مجلس التعاون الخليجي فلعبت تلك الدول كمتغير داعم لتنفيذ الإستراتيجية الأمريكية في العراق والإسهام في تحمل تكاليف الحرب ، رغبةً منها لتحقيق مصالحها وأهدافها وعدم الابتعاد عن الحليف الإستراتيجي الولايات المتحدة الأمريكية ، وفي الوقت نفسه لعبت هذه الدول أو بعضها كمتغير كابح في تنفيذ الستراتيجية الأمريكية عبر المساهمة في تأزيم الوضع الأمني في العراق رغبة منها لتحجيم أو تأخير تطبيق أية نيّة أمريكية للضغط عليها للتناغم مع التطورات السياسية في العراق.أما ما يتعلق بالأردن ، فلعب كمتغير داعم لتنفيذ الستراتيجية الأمريكية في العراق على المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية ـ العسكرية ، أما سوريا لعبت كمتغير كابح لتنفيذ الإستراتيجية الأمريكية عبر خلط الأوراق عليها وزيادة انشغالها بالشأن العراقي لإبعادها عن كونها وفق التصور الأمريكي أحد أقطاب محور الشر.