حقوق الإنسان وحرياته الأساسية كثيرة ومتنوعة ، فمنها الحقوق الشخصية ومنها الحقوق السياسية والاقتصادية ، والاجتماعية وغيرها من الحقوق، وفي مقدمتها الحريات العامة بل وأولى هذه الحريات جميعاً حرية البدن ، أو حرية الفرد في بدنه ، وهي مكنة اختيار طاقته البدنية من سكون وحركة ، فللفرد أن يستقر في مكان فتتجلى بذلك تحديداً حرية أساسية ، هي حرية المسكن أو يتحرك متنقلاً من مكان الى آخر قريباً كان أم بعيداً فتتجلى بذلك حرية التنقل بوصفها من الحقوق الأساسية اللصيقة بشخصية كل إنسان ، وهذا ما أكده الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948 ، وأكده كذلك العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية التي وافقت عليه الجمعية العامة للأمم المتحدة في 16 ديسمبر عام 1966. إلا أن هذه الحقوق كثيراً ما تنتهك بجريمة بشعة وهي جريمة التهجير القسري ، أو ما تسمى بالإبعاد ، أو النقل القسري ، وشهد العالم عمليات تهجير قسري واسعة النطاق للسكان المدنيين في مراحل متعددة من تاريخه الطويل ، وكان أكثرها إيلاماً ما شهده العصر الحديث ولاسيما اثناء النزاعات المسلحة التي أثرت تأثيراً مباشراً في الطبيعة السكانية للعالم بأسره والعراق أحد هذه الدول التي تفشت فيها هذه الجريمة سواء قبل عام 2003 أم بعده.إن جريمة التهجير القسري (الإبعاد أو النقل القسري) للسكان من الجرائم الدولية التي نص عليها النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الدائمة ، وهو من الصور الواضحة للقانون الدولي الجنائي في المجال الذي يحكمه هذا النظام الذي تضمن قواعد قانونية دولية عامة ، كما تضمن قواعد قانونية دولية جنائية تـــمتد الى القوانــيـن الجنــائيـــة الوطــنية لمختــلف النـــظم القــانونـــية في العـــالم كمبدأ (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص) وكذلك أسباب الإباحة وموانع المسؤولية الجنائية.إن القانون الدولي الجنائي يتضمن خصائص قانونية مشتركة بين القانون الدولي العام وبين القوانين الجنائية الوطنية ، والقوانين الجنائية الوطنية تعد بحق من نتاجات تطور الفكر الإنساني ومن ثم فهي جزء من إرثه الحضاري ، ولهذا السبب تحديداً كانت القوانين الجنائية في مختلف دول العالم متشابهة مع بعضها بصورة كبيرة ، لاسيما في المبادئ العامة ، والقانون الدولي الجنائي تتسم قواعده القانونية بأنها مزيج من قواعد القانون الدولي العام والقواعد الجنائية المنصوص عليها في القوانين الوطنية.ووفقاً للنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الدائمة يقع التهجير القسري ( إبعاد السكان أو النقل القسري للسكان متى ارتكب بطريقة متتابعة ومنظمة أو على نحو واسع النطاق ضد أية مجموعة من السكان المدنيين ، ومن ثم تعد جريمة ضد الإنسانية وذلك بنقل الأشخاص المدنيين قسراً من المنطقة التي يوجدون فيها بصورة مشروعة بالطرد أو بأي فعل قسري آخر من دون مبررات يسمح بها القانون الدولي)، كما يشكل انتهاكاً جسيماً لاتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 إذا ارتكب هذا الفعل ضد الأشخاص الذين تحميهم أحكام هذه الاتفاقية وهم السكان المدنيون ، إذا وقع خلال النزاعات المسلحة الدولية و تضمنت اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب على أنه ( يحظر النقل الجبري الجماعي أو الفردي للأشخاص المحميين أو نفيهم من الأراضي المحتلة الى أراضي دولة الاحتلال أو إلى أراضي أية دولة أخرى محتلة أو غير محتلة أياً كانت دواعيه).كما تضمنت اتفاقيات جنيف هذا الاتجاه ( قيام دولة الاحتلال على نحو مباشر أو غير مباشر بنقل أجزاء من سكانها المدنيين إلى الأرض التي تحتلها أو إبعاد أو نقل كل سكان الأرض المحتلة أو أجزاء منهم داخل هذه الأرض أو خارجها فإنها جريمة حرب). و في عام 1977 صدر البروتوكولين الإضافيين لاتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 بسبب النقص في الاتفاقية من جهة وليتم شمول السكان المدنيين بالحماية في النزاعات المسلحة الداخلية من جهة أخرى. ومن أبرز الأمثلة عن التهجير القسري (الإبعاد أو النقل القسري ) للسكان هي الأفعال الإجرامية الدولية التي ارتكبت وما زالت ترتكب من قبل الكيان الصهيوني ضد أفراد الشعب الفلسطيني وضد مدينة القدس والمتمثلة أساساً في مهاجمة السكان المدنيين وإبعادهم والاستيطان وكذلك ما يحصل اليوم في أكثر من محافظة في العراق. أهمية الدراسة :قد شهد التاريخ أمثلة كثيرة عن التهجير القسري (الإبعاد) بوسائل مختلفة ، وإن كان استخدام القسر المادي والقوة المباشرة ، أكثرها انتشاراً ، وأشدها وحشية وإيلاماً ، بالنظر لما قد ينجم عن التهجير القسري (الإبعاد أو النقل القسري) للسكان، من أذى جسدي جسيم ، أو موت المجنى عليهم ، وكذلك محاكمة كثير من المتهمين بارتكاب هذه الجريمة.إن موضوع حماية حقوق الإنسان من تعسف أنظمة الحكم أصبح المعيار الأساسي لكشف مدى صدق الالتزام بالقوانين والإعلانات الدولية والمواثيق العالمية ، لاسيما بعد أن اكتسبت هذه القضية بعداً عالمياً ولم تعد تقتصر على مسألة داخلية وعلى الصعيد الداخلي تفشت هذه الجريمة بسبب النزاعات المسلحة والعصابات الإجرامية ولعدم وجود قوانين تعالج هذه الجريمة معالجة جذرية وشاملة.