تميزت الجرائم الدولية بالوحشية والقسوة ، وعاشت البشرية تحت وطأة الحروب والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ، فظهرت الحاجة الملحة لملاحقة مرتكبي تلك الجرائم لضمان عدم الإفلات من العقاب ، من خلال البحث عن آلية دولية لملاحقتهم وهو ما يتحقق عن طريق قضاء جنائي دولي مستقل ومحايد يمارس اختصاصه على الجميع دون تمييز ، وتجسدت فكرة هذا القضاء عبر جهود الفقيه " غوستاف مونييه " في عام 1872 باقتراحه إنشاء محكمة جنائية دولية . فبدأ القضاء الجنائي الدولي حلم يتحقق شيئاً فشيئاً فأكدت معاهدة فرساي عام 1919 على إنشاء محكمة جنائية خاصة لمحاكمة إمبراطور المانيا السابق لدوره في إشعال الحرب العالمية الأولى ، وضباط الجيش الألماني المتهمين بخرق قوانين وأعراف الحرب أمام المحاكم العسكرية . وبعد الحرب العالمية الثانية ارتكبت أبشع الجرائم ضد الشعوب ، فظهرت محاكمات نورمبرغ عام 1945 وطوكيو عام 1946 ، وهذه المحاكمات وان مثلت تقدما نحو قضاء جنائي دولي حقيقي غير انها كانت بمثابة إنتقام المنتصرين من المهزومين وشكلت تطبيقاً لقانون الغالب وعدالته أكثر من كونها تطبيقا للقانون الدولي . وشهد أواخر القرن العشرين أفعالا جسيمة خرقت فيها مبادئ وقواعد القانون الدولي وانتهكت فيها الأعراف والمواثيق الدولية ونتيجة لذلك ؛ شهد القضاء الجنائي الدولي تطوراً آخر جراء الأحداث المأساوية والفظائع التي ارتكبت في سياق النزاعات المسلحة في يوغسلافيا السابقة عام 1993 ورواندا عام 1994 مما أعاد الى الأذهان فكرة إنشاء قضاء جنائي دولي . فحاول المجتمع الدولي ممثلاً بمجلس الأمن ان يتصدى لمرتكبي هذه الجرائم بالملاحقة والعقاب بإنشاء المحاكم الخاصة في يوغسلافيا السابقة ورواندا ، فكانت تلك الانتهاكات في تلك الدولتين نتيجة لثقة مرتكبيها بالإفلات من العقوبة . لعدم وجود جهاز قضائي دولي متخصص لردعهم وعقابهم . ورغم ما واجهت هاتين المحكمتين من صعوبات الا انهما مهدتا السبيل الى قضاء جنائي دولي دائم يفرض سيادة القانون على الدول والأفراد معاً . فيمثل أمامه مجرمو الحرب ويخضعون للعقاب والمحاكمة اذا ما ثبت إدانتهم بهذه الجرائم دون اعتبار لوضعهم السياسي أو العسكري أو الاعتداد بالحصانة لهؤلاء وبذلك يحصل الضحايا على العدالة التي كانت حكراً على مجلس الأمن يطبقها كيفما شاء . وعوداً على ذي بدء أصبح الحلم حقيقة فتوصل المجتمع الدولي الى إنشاء جهاز قضائي دولي دائم عُرف بـ " المحكمة الجنائية الدولية " في عام 1998 وتمارس هذه المحكمة اختصاصها على اشد الجرائم خطورة بموجب نظام روما الأساسي المكون من 128 مادة ودخلت حيز التنفيذ في تموز عام 2002 وعلى أية حال فان المحكمة الجنائية الدولية هيئة قضائية دولية ذات شخصية وأهلية قانونية دولية وهي ليست محكمة خاصة تزول بزوال الغرض منها كما انها ليست من المحاكم التي أسسها مجلس الأمن ، الا ان ذلك لا يعني عدم وجود علاقة بينها وبين الأمم المتحدة . بناء على ذلك كانت هذه المحكمة ثمرة لجهود دولية امتدت لأكثر من نصف قرن ، واكتسبت تأييدا كبيراً من غالبية الدول ومنها الدول العربية . وعلى العكس عارضت بعض الدول الغربية هذه المحكمة واعتبرتها عدوا لها ومن هذه الدول الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل . وتختص المحكمة بالنظر في أربع جرائم دولية وردت في نظامها الأساسي ووضعت العقاب على مرتكبيها ، كما انها ذات اختصاص مكمل للقضاء الوطني وليست بديلا عنه ، وتتكون من عدد من الأجهزة . فأصبح بالإمكان الاعتماد على آلية يفترض انها الأجدر على عقاب مجرمي جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب إضافة الى جريمة العدوان بعد وضع تعريف لها .وبعد اندلاع الحرب الأمريكية - البريطانية على العراق عام 2003 واجهت المحكمة تحديا صعبا ، فانتهكت القوانين وقواعد الحرب في العراق من قِبَل القوات الأمريكية والبريطانية مما جعل هذه المحكمة ملاذا آمناً في مخيلة الضحايا ، الا انها قد لا تكون كذلك لطبيعة نشأة المحكمة كونها ثمرة لمعاهدة دولية ، لان حرية الانضمام الى نظامها أو عدمه رهناً بإرادة الدول ، وبالتالي فأن نظامها الأساسي لا ينطبق الا على الدول الأطراف وعدم إمكانيتها النظر في الانتهاكات والجرائم الأمريكية خاصة وان العراق والولايات المتحدة ليسا من الدول الأطراف فيه وأخذت المحكمة الجنائية الدولية بالمبادئ العامة للقانون الجنائي ونصت عليها في نظامها الأساسي وبهذا كان للمحكمة دوراً مهما في القانون الدولي بصورة عامة وفي القانون الدولي الإنساني بصورة خاصة حيث أصبحت الأداة القانونية الفعالة للأخير عبر تطبيقها للكثير من الاتفاقيات والمواثيق الدولية التي أكد عليها هذا القانون .