فبعد تفكك الاتحاد السوفيتي في ديسمبر من العام 1991، وظهور روسيا الاتحادية كدولة مستقلة واجهت الأخيرة تحديات واضحة على مستوى سياستها الخارجية، تمثل التحدي الأول: في كيفية صياغة سياسة خارجية جديدة في ظل حالة الانهيار الشامل لورثة الاتحاد من ناحية، وفي ظل النظام العالمي الجديد الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة من ناحية أخرى. فبانهيار الاتحاد السوفيتي تفككت مؤسساته أو على الأقل أصبحت في حالة اختراق خارجي، لذلك بات من الضروري بناء أجهزة صنع سياسة خارجية جديدة، وصياغة منظور جديد للتعامل الدولي الروسي، وذلك كله في ظل الأوضاع والأزمة العامة التي شهدها المجتمع الروسي بسبب التفكك.وحيث أن روسيا كانت قد ورثت التركة الدولية للاتحاد السوفيتي بما في ذلك مقعده في مجلس الأمن وسفاراته في الخارج، كما ورثت أيضاً ترسانته النووية وأدوات نقلها، وهو ما تمثل في التحدي الثاني في كيفية صياغة مركز دولي جديد لروسيا يتفق مع مقدرتها العسكرية، ويعترف بضعف اقتصادها، وبأنها قد هزمت في الحرب الباردة. وكيف يمكن التوفيق بين مقتضيات عظمة روسيا كقوة كبرى والالتزامات الضخمة لتلك العظمة، والتي لا تستطيع روسيا الوفاء بها.أما التحدي الثالث، فهو التحدي الذي تزامن مع استقلال روسيا، والمتمثل في صعود قوى دولية جديدة كالاتحاد الأوربي والصين، فضلاً عن النمور الآسيوية، ومن ثم أصبح من الضروري على روسيا أن تصوغ سياسات خارجية للتعامل مع القوى الصاعدة الجديدة.ومع كل تلك التحديات فقد عانت روسيا أيضاً خلال التسعينات من القرن المنصرم من محاولات شطب دورها العالمي، حيث كانت سياسة الولايات المتحدة تجاهها تتمثل في: العمل على إعاقة إعادة ظهور روسيا الاتحادية كقوة إقليمية مهيمنة دبلوماسياً واستراتيجياً، أو كقوة شاملة أو ند لها. حيث شهد العالم خلال هذا العقد نمطاً جديداً من العلاقات الدولية، وهو نظام الأحادية القطبية بقيادة الولايات المتحدة التي استخدمت أسلوبها الخاص في فرض هيمنتها الدولية. إلا أن الأمر المؤكد الذي شهده العقد الأول من القرن الواحد والعشرين يشير إلى أن قواعد اللعبة لم تعد تعطى للولايات المتحدة حق الانفراد المطلق على الساحة السياسية الدولية حتى لو كانت ذات القوة العسكرية المطلقة، فهي دائماً بحاجة إلى غطاء من التحالف. خاصة وإنها تشهد حالياً مرحلة انتقالية غير معهودة، حيث تخوض أربع حروب معلنة إن صح التعبير، عن طريق حربها في أفغانستان منذ العام 2001، واحتلالها للعراق في العام 2003، ومقاومة ومحاربة الإرهاب الدولي، وكذلك الأزمة المالية والاقتصادية العالمية، والتي كادت أن تعصف بالاقتصاد الأمريكي الذي لم يشهد لها مثيلاً منذ ما يقارب السبعين عاماً، الأمر الذي أدى إلى إقرار الحكومة الأمريكية في الاجتماع المالي والدولي، الذي انعقد في واشنطن بتاريخ 15/11/2008، داعية إلى ضرورة تعديل نظام النقد الدولي، وإعطاء الاتحاد الأوربي وروسيا والصين والهند وجنوب أفريقيا والبرازيل دوراً أوسع في هذا النظام، وكذلك الدول النفطية الرئيسة، وبما يتلائم والوضع الاقتصادي العالمي الحالي وانتشاله من التدهور والانهيار، وهذه إشارة إلى أن الولايات المتحدة غير قادرة على قيادة العالم كما تتصور أو كما يحلو لها، وإن نظاماً دولياً جديداً متعدد الأقطاب آت لا محالة. وعلى ذلك بات من الصعب أن تنفرد الولايات المتحدة باتخاذ القرارات العالمية دون العودة إلى قوى عظمى كروسيا والصين. خاصة وإن بداية العقد الأول من القرن الحالي كانت قد استهلت بظهور رغبة روسية بالدخول في منافسات إعادة صياغة النظام الدولي لتؤسس بذلك مدخلاً رصيناً لمرحلة موازنة حقيقية لأهداف سياستها الخارجية من حيث المكاسب والخسائر. إن "الشراكة الاستراتيجية" مع الولايات المتحدة على أثر أحداث 11 أيلول وما فرضته الولايات المتحدة من نظام عالمي جديد وعولمة في السياسة والاقتصاد والإرهاب، لا ينفي وجود تناقضات أو خلافات بينهما بشأن عدد من القضايا، انطلاقاً من محاولة روسيا الدفاع عن مصالحها الاقتصادية، أو حفاظاً على ما تعده مساساً بأمنها القومي. إذ أن مظاهر التوتر بين روسيا الاتحادية والولايات المتحدة ما تزال قائمة، ويرجع البعض ذلك إلى سببين: أولهما توجه روسيا الاتحادية إلى مزيد من الواقعية لصلابة الحليف المضاد في المسائل الكبرى والصغرى. وثانيهما إن الولايات المتحدة لم تكن تنظر إلى روسيا كشريك، وإنما كمنافس محتمل يجب منع إحيائه، بل يجب استغلال كل فرصة لإضعافه، ويتضح ذلك عن طريق عدم توقف الولايات المتحدة عن بناء قدراتها العسكرية، وانسحابها من معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية، وتكثيف جهودها لتطوير نظام دفاع صواريخ عالمي، هذا فضلاً عن تشجيعها لحلف الناتو لزيادة توسيعه شرقاً. بذلك أدركت روسيا: أن انتهاء الحرب الباردة بينها وبين الولايات المتحدة لن يُزيل حالة العداء السحيق المتأصّل والمستحكم في قوالب أيديولوجية وسياسية وتنافسية بينهما، وأن سياسة الولايات المتحدة تجاهها لم تكن يوماً يُراد لها تأصيل الثقة البينية أو إقامة تعاون مشترك؛ فروسيا بالنسبة للأمريكيين لم تكن شيئاً غير "إمبراطورية الشر" كما سمّاها رونالد ريغن، لذا فإن الروس ومن واقع خبرة سياسية عتيدة بدأوا بشكل عملي في تجسير علاقاتهم الخارجية (على أسس براغماتية بحتة) مع قوى سياسية واقتصادية دولية وإقليمية أخرى وبالذات مع دول الجوار، بعدها وسيلة لترميم علاقات روسيا مع تلك القوى من ناحية، واكتساب شركاء وأصدقاء جدد في مناطق عدة ومهمة على مستوى العالم من ناحية أخرى، وهو ما توضح جلياً عن طريق الزيارات التي قام بها الرئيس (فلاديميير بوتين)، أو كبار المسئولين في الحكومة الروسية إلى دول عدة، مثل: الصين، والهند، وكوريا الشمالية، وكوبا، واليابان، وإيران. تلك السياسة التي وصفت من قبل عدد من الباحثين الروس على إنها (استراتيجية متعددة الاتجاهات)، وهي لا تعني: تراجعاً عن اندماج روسيا في المجتمع الغربي بقدر ما تعني: إقامة علاقة أكثر واقعية بين الطموحات والموارد المحدودة، مع عدم الرغبة في المواجهة مع الغرب، فضلاً عن محاولة لعب دور مهيمن لروسيا على أراضي الاتحاد السوفيتي السابق، ولكن عن طريق أساليب أكثر مرونة. وقد عدت هذه الاستراتيجية من قبل هؤلاء الباحثين بمثابة محاولة لإيجاد طريق ثالث في العلاقات الدولية لا يسعى للاندماج مع الغرب، ولكنه في الوقت نفسه لا يسعى للمواجهة معه.