من المعلوم أن الإنسان مدني بالطبع لا يمكنه أن يعيش وحيداً بمفرده مستغنياً عن الناس فهو بحاجة اليهم وهم بحاجة اليه، فكان مما يحتمه الواقع أن يعيش معهم في مجتمع واحد، وأن يقع التعامل بينهم بالبيع والشراء والمشاركة والمصاهرة وغيرها من الروابط والمعاملات. ويترتب على هذا التعامل حدوث اختلاف وتعارض في تقدير المصالح وفي اساليب المحافظة على الحقوق والرغبات والأهداف ، ولابد من وجود سلطة لها الاختصاص والصلاحيات لأقامة العدل بين الناس ولقد أمر الله سبحانه وتعالى رسوله بإقامة العدل { إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ} وفي نفس السورة يخاطب الله داود بقوله { يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} واقامه العدل تكون بإصدار الاحكام التي تحسم النزاعات وأسترجاع حقوق الضعفاء من مغتصيبها الأقوياء وأشاعة الطمأنينة بين الناس ، فيما يتعلق بأنفسهم واعراضهم وأموالهم وحقوقهم، وهذه السلطة هي المحاكم بكافة درجاتها.فعلى القاضي وهو يحمل هذه المسؤولية أن يتحلى بصفات بارزة سامية وأهمها العدل الى جانب الحياد والنزاهة والعفة وسعة الصدر وبعد النظر والتحلي بالصبر على منازعات الخصوم ورسوخ العلم والمعرفة ووضع رضا الله تعالى نصب عينيه ولا يخشى في قول الحق لومة لائم ، كما في قوله تعالى { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} إن الظواهر التي ينحرف بها أهلها عن سنن الله ونظامه من أشد ما يقطع الصلات ويغرس الاحقاد ويثير أعاصير الكيد والانتقام ويهدد المجتمع بالاخطار التي تنشأ عنها الخصومات والاضغان والاحقاد وقد أمر الله سبحانه وتعالى بالعدل حتى مع الاعداء. { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} ولهذه الاسباب المتقدمة أخترت الحكم القضائي المدني وما يدخل في طياته من أحكام عنواناً لرسالتي لتحقيق الحق وإقامة العدالة ما بين الناس.