انطلاقاً من استقراء التأريخ نجد أن الولايات المتحدة منذ نشوئها كدولة مستقلة أقامت امنها القومي على أساس مبدأين، ألا وهما التغيير والتوسع في المناطق الحيوية من العالم على حساب الآخر، واتخذ هذا التوسع شكله القاري باتجاه قارة امريكا اللاتينية قبل الحرب العالمية الأولى، ومن ثم التوسع السياسي والاقتصادي والانتشار العسكري باتجاه العالم كله منذ انتهاء الحرب الباردة.إذ مثّل انتهاء تلك الحرب والفراغ الكبير الذي خلفه التفكك المذهل للاتحاد السوفييتي على مستوى التوازن الاستراتيجي والاستقطاب الاقليمي وبروز الولايات المتحدة كقطب مهيمن على النظام الدولي، واندلاع أحداث 11ايلول/سبتمبر2001، واحتلال العراق في 2003، فرصة تأريخية غير مسبوقة للولايات المتحدة لتنفيذ مخططاتها الرامية إلى اعتلاء العرش العالمي والهيمنة على مقدراته، بعد الخلل الذي برز في ميزان القوى جرّاء خروج الغريم التقليدي من حلبة المنافسة، ولتُفتح بذلك بوابة تحولات جذرية اعترت صرح الساحة العالمية وانطوت على تحديات جابهت الولايات المتحدة ولم تزل في الكثير من أقاليم العالم، فاندفعت على أثرها الولايات المتحدة للانخراط في صياغة استراتيجيتها لتأمين مصالحها الحيوية في العالم على هدى مرتكزات اساسية تحاول من خلالها تمرير سياستها بغية تحقيق أهداف أمنها القومي الذي اتسع ولم تعد له حدود، وفي القلب من هذه الاستراتيجية تقع المنطقة العربية كأحد الأقاليم الاستراتيجية الموجودة في العالم والتي تتميز دون غيرها من الاقاليم ليس فقط بحجم المصالح الأمريكية الكامنة فيها، ولكن لكونه الاقليم الاستراتيجي الوحيد الذي تنفرد الولايات المتحدة بالسيطرة على مجريات الأمور فيه منذ نهاية الحرب الباردة دون منافسة من قبل الدول الكبرى الاخرى.وبدت الاستراتيجية الأمريكية تقدم مشاريعاً للتغيير في مختلف الأقاليم تقريباً، بعد أن اتخذ التغيير رؤى متعددة، وأهدافًا ذات أبعاد شاملة استراتيجية وجيوستراتيجية وجيواقتصادية وعسكرية-أمنية وثقافية-حضارية، ولأن المنطقة العربية تعد واحدة من بين المناطق المفصلية في تحقيق أهداف استراتيجية الأمن القومي الأمريكي، فقد خصها الخطاب الأمريكي بنوع من الاستثنائية من هذا التغيير. لكن مع ظهور قواعد وسياسات جديدة ليس بين الدول فحسب، بل بين المجتمع والدول، والمجتمعات داخل الدولة نفسها، في ظل فقدان الدول قدرتها على التماسك في وجه نتائج العولمة، طرحت الولايات المتحدة مشاريعها للتغيير في المنطقة العربية.وشهدت التوجهات الأمريكية نحو المنطقة العربية مطلع الألفية الثالثة انعطافة حادة، إذ رفعت الإدارة الأمريكية شعارات التغيير في المنطقة من مداخيل: كالأمن والاصلاح و السلام، وصورت للشعوب العربية أن التغيير يمثل فرصة على انه سانحة للنهوض والتحرر من انظمة دكتاتورية فاسدة، وتحقيق الديمقراطية بين دول منضوية في نظام شرق اوسطي قائم على التعاون الإقليمي بإنشاء أسواق ومنطقة تجارة حرة مع دول المنطقة اخذين بالاعتبار دور إسرائيل كركيزة أساسية في هذا النظام الجديد.بيد أن المقصود اكبر من قضية تغيير انظمة عربية حاكمة وتحقيق نوع من الاصلاح السياسي في دول اخرى، ذلك أن اصرار الولايات المتحدة على الاحتفاظ بزعامتها العالمية يتطلب بالضرورة الهيمنة المطلقة على منطقة الشرق الأوسط، وإعادة رسمها وفق المصلحة الأمريكية، بما يعني إعادة إنتاج التجزئة في شكل جديد، لاسيما إذا ما علمنا أن مشروع التغيير الأمريكي يحمل في طياته منظورًا ومسحًا استراتيجيًا للمنطقة كلها بما يجعلها القاعدة الأمريكية التي ستنطلق منها الاستراتيجية الأمريكية الشاملة نحو الهيمنة على كل إقليم اوراسيا ثم الهيمنة على العالم والانفراد بالنظام العالمي.