السياسة الخارجية الفرنسية حيال المشرق العربي (حقبة مابعد الحرب الباردة)

number: 
1424
عربية
Degree: 
Author: 
رواء طه درويش
Supervisor: 
الاستاذ الدكتور فكرت نامق العاني
year: 
2011

تمثل المنطقة العربية عامةً والمشرق العربي خاصةً ، اهمية كبيرة لفرنسا بقدر مايمثل الاخير اهمية متميزة وكبيرة بالنسبة لدول العالم كافة فهذه المنطقة كانت وماتزال تحظى باهتمام جلّ الدول كبيرها وصغيرها ، واهتمام عالمي يتزايد بمرور الزمن بسبب الموقع المميز الذي يشغله والثروات الكامنة في باطنه ، والاحداث والاضطرابات التي عجت به مما جعله احد المناطق الاكثر سخونةً بالعالم . كما ان منطقة المشرق العربي لم تخرج من منطق الحرب الباردة ـ رغم انتهاء تلك الحرب بتفكك الاتحاد السوفيتي وكتلتها الشرقية ـ اذ تغيرت اطراف الصراع ، فبعد ان كان الصراع على منطقة المشرق العربي يدور بين الكتلتين الشرقية بزعامة الاتحاد السوفيتي والكتلة الغربية بزعامة الولايات المتحدة الامريكية ، اصبح الصراع الان يدور بين الولايات المتحدة واوربا من جهة ، والدول الاقليمية المحيطة به من جهة اخرى ، والمتمثلة بتركيا وايران واسرائيل .وتعد فرنسا من اسبق الدول صلةً بهذه المنطقة ، اذ تعود علاقاتها بالمنطقة منذ ايام الملك شارل مان وصداقته للخليفة هارون الرشيد ، ولكن النفوذ الفرنسي بدأ يظهر في المنطقة ويتركز منذ حملة نابليون بونابرت في العالم سنة 1798. وعلى الرغم من الوجود الفرنسي في المنطقة وانتدابها على كل من سوريا ولبنان ، الا ان نفوذها كان ضعيفاً مقارنةً ببريطانيا والتي كانت لها الهيمنة والسطوة في تلك المدة ، ولذلك لم يكن لفرنسا انذاك سياسة واضحة المعالم او مؤثرة ، بل انعدمت هذه السياسة بعد ان استقلت الدول الواقعة تحت سيطرتها وخرجت فرنسا خائبة ، ولم تحقق حلمها في امبراطورية يمخرها البحر المتوسط كما يمخر السين باريس .
وفي اعقاب الحرب العالمية الثانية ، حدث تبدل جذري في مواقع ومواقف الدول ، فبرزت دول الى الواجهة وتراجعت دول اخرى ، وجرى انقلاب جذري في المحور الاساسي للنظام الدولي ، اذ تحول من نظام متعدد الاقطاب الى نظام القطبية الثنائية ، والذي ظل باقياً حتى بداية عقد التسعينات من القرن الماضي ، وقد كانت فرنسا من الدول التي تراجع دورها وانحسر عالمياً ، نتيجة الحرب العالمية الثانية وان كانت قد خرجت منها منتصرة ، الا انها كانت منهكة عسكرياً واقتصادياً ، وكانت كلها عوامل اثرت فيها داخلياً وخارجياً ، الا ان فرنسا حاولت التشبث بأي وسيلة كانت ، لابقاء ركائزها في المنطقة في ظل تنافس استعماري بين الكتلتين .وبمجئ الجمهورية الفرنسية الخامسة عام 1958 وزعيمها شارل ديغول وبسبب مجموعة من الاصلاحات والخطوات الجريئة التي اتخذها ، ولاسيما اتخاذه سياساته شبه المستقله عن الكتلة الغربية وحلف شمال الاطلسي وسياساته المتوازنة والحيادية تجاه اغلب قضايا العالم الثالث وبالذات منطقة المشرق العربي ، والتي عن طريقها استطاعت فرنسا من ان تخط مساراً جديداً في سياساتها الخارجية والتي اتسمت بالواقعية والعقلانية ، مما اكسبها رضاً وارتياحاً عالمياً ، لاسيما في المنطقة العربية عامةً ومنطقة المشرق العربي بصورة خاصة .وبازدياد اهمية المنطقة في حقبة السبعينات من القرن العشرين بازدياد اهمية النفط بعد ان صار له بعداً سياسياً ، بعد تصحيح اسعار النفط في العام 1973 ، زاد الاهتمام الفرنسي في المنطقة ، وزادت معها محاولات الحياد والتوازن والاستقلالية في سياساتها تجاه المنطقة العربية عامةً ومنطقة المشرق العربي بصورة خاصة ، واستمر الحال هكذا حتى بعد رحيل الجنرال ديغول عن السلطة .وبوصول الاشتراكيين الى السلطة في العام 1981 ، حدث تغيير ملحوظ في السياسة الفرنسية ، ولكنها لم تبتعد عن الخطوط العريضة التي ارساها الجنرال ديغول في السياسة الفرنسية حيال المشرق العربي ، فقد استمر الرئيس متيران في التأكيد على الدور الفرنسي العالمي ، وعلى مكانتها بين الدول العظمى كما حاول الابتعاد عن المعسكريين المتنافسيين ، وهي الاسس التي حرص عليها الجنرال ديغول في سياساته العالمية ، الا ان الرئيس متيران لم يستطع ان يحافظ على الحيادية خاصةً فيما يخص الصراع العربي ـ الاسرائيلي ، كما ان الرئيس متيران لم يستطع ايضاً ان يحافظ على الاستقلالية في معالجة شؤون المنطقة ، حيث تخلى عن لعب اي دور مستقل في المنطقة بعيداً عن الظل الامريكي ؛ وليصبح الدور الفرنسي مكملاً للدور الامريكي في المنطقة ؛ ولتصبح السياسة الفرنسية سياسة اطلسية لاسيما عندما اضطرت الى دخول التحالف الغربي ضد العراق في العام 1991 .موماً ، فقد كانت السياسة الفرنسية تجاه منطقة المشرق العربي خلال الحرب الباردة سياسة براغماتية ، استطاعت فرنسا من خلالها ان تجني بعض الفوائد وان تحمي مصالحها الفرنسية في المنطقة ، وكانت سياساتها تمتاز بدور الوسيط المقبول احياناً بين طرفي الحرب الباردة ، أو دور المساند او دور المكمل في الغالب .اما في ظل اوضاع مابعد الحرب الباردة ، فانه يمكن القول بان انتهاء الحرب الباردة قد صنعت عالماً جديداً ، والذي حول بدوره هيكل النظام الدولي من نظام الثنائية القطبية الى نظام القطب الواحد ، عسكرياً والمتعدد اقتصادياً وتكنولوجياً ، بقيادة الولايات المتحدة الامريكية .ان منطقة المشرق العربي كانت وماتزال من اكثر المناطق تأثراً في الاوضاع الدولية الجديدة ، وذلك لما تمتلكه من ثروات كامنة جعلت منها محط انظار كل القوى المتنافسة والمتصارعة ولوقوعها في قلب الاحداث والازمات الطارئة ، فمن الصراع العربي ـ الصهيوني الى حربي الخليج الاولى والثانية ، والانتقاضات الفلسطينية فالازمات اللبنانية واحداث 11 / ايلول عام 2001 والغزو الامريكي للعراق عام 2003 ، ومقتل رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري عام 2005 ، وماتبعها من احداث في لبنان انتهت بالانسحاب السوري من لبنان وانهاء وجوده ، ثم الهجوم الاسرائيلي على لبنان وبعدها الهجوم على غزة في نهاية العام 2008 وبداية العام 2009 .وفي ظل الاحوال الدولية الجديدة ، بدأ الدور الفرنسي بالتأكل في ظل التفرد الامريكي غير المسبوق بالشؤون الدولية ، وذلك من خلال تحييد دورها عبر تحالفات معها ومن خلال التواجد العسكري المكثف في المنطقة ، الا ان فرنسا حاولت الخروج من هذه الاوضاع من خلال العديد من الخطوات التي اتبعتها كالاتجاه نحو التعجيل بظهور العملاق الاوروبي ، والذي من خلالها تستعيد فرنسا مكانتها مادامت انها ستقود اوروبا ، وكذلك العودة الى حلف شمال الاطلسي ودعم روسيا لها ومساندتها ، لان ذلك سيساعد فرنسا ويدعم من مواقفها كي تلعب دوراً دولياً مؤثراً .اما سياسة فرنسا حيال منطقة المشرق العربي في ظل الانفراد الامريكي ، فيمكن الرجوع الى قول بريجينسكي في كتابه رقعة الشطرنج الكبرى ، بقوله : ( في ظل النظام الدولي الجديد ، يمكن القول بانه ليس لاوربا سياسة مختلفة كثيراً عن السياسة الامريكية ) ، وهذا الامر ينساق على فرنسا وسياساتها الخارجية التي اصابها العجز جراء التسلط الامريكي ، فهي وان ارادت في بعض المواقف التمييز عن السياسة الامريكية ، الا انها في نهاية المطاف تعود الى الظل الامريكي بارادتها أو بسبب عجزها عن مجاراة السياسة الامريكية .والسياسة الفرنسية تجاه منطقة المشرق العربي ( ذات الطبيعة الفريدة والخاصة ) كما يصفها السياسي الفرنسي شارل سان برو ، اصبحت لاتستطيع الصمود في اغلب الاحيان في مواجهة السياسة الامريكية ، فهي ( في النهاية تقول نعم ... ولو جاءت متأخرة ) . لقد تميزت السياسة الفرنسية حيال المنطقة العربية بالتناقض ، لاسيما بعد الحرب الامريكية على العراق واحتلاله عام 2003 ، فمن المعارضة الفرنسية والرفض لشن الحرب على العراق والتلويح باستخدام حق النقض ( الفيتو) ، الى مباركة نجاح القوات الامريكية في سحق النظام العراقي ، هذا النجاح الذي هو ( انتصار لقيم الحرية والديمقراطية التي يمثلها الغرب ) كما جاء على لسان الرئيس جاك شيراك ، والذي اضاف بما يشبه الاعتذار او اكثر من الاعتذار لتوجهات السياسة الامريكية حيال المنطقة ، حين قال : ( لم يعد مسموحاً لاوروبا بان تخطئ ثانية ) . ومن اجل استرضاء الولايات المتحدة الامريكية ، وقفت فرنسا معها فيما يخص القضية اللبنانية وازمتها مع سوريا ، وقد قام جاك شيراك ببذل الدور الاكبر في اصدار القرار 1559 (*) والصادر عن المنظمة الدولية ( الامم المتحدة ) والالحاح على تنفيذه لتخسر فرنسا سوريا كشريك اساسي في المنطقة ، واحدى مناطق النفوذ الفرنسية الاستراتيجية بالنسبة لفرنسا ، فضلاً عن خسارة قضية لبنان بعد ان تم تدويلها .وهكذا ، اخذت السياسة الفرنسية تجاه قضايا المنطقة تتأرجح بين الاستقلالية و رضوخها للامر الواقع ، اي للاستراتيجية الامريكية مما جعل الكثيرون يشككون في هذه السياسة وفي مصداقيتها وفي اهدافها ، كما يرى الكثيرون بان السياسة الفرنسية منذ نهاية الحرب الباردة حتى الان ، انها تحصد الخسارة تلو الخسارة والتراجع الدائم خاصةً في المشرق العربي .