كان مبدأ السيادة – و لا يزال- أحد المقومات المهمة التي تنهض عليها نظرية الدولة في الفكر السياسي و القانوني التقليدي , والدولة - بوصفها الشخص الرئيس من أشخاص القانون الدولي - تتكون من عناصر ثلاثة هي: الإقليم ، و السكان ، و السلطة السياسية المنظمة (الحكومة) التي تقوم علي تنظيم السلطات و المرافق العامة و إدارتها في الداخل والخارج , و اكتساب الدولة صفة السيادة مع وجود هذه العناصر هو الذي يحدد للدولة اختصاصات واسعة في النطاق القانوني الدولي ، وبدون ممارسة تلك الاختصاصات لا تتصف الدولة بالشخصية القانونية الدولية في نظر القانون الدولي العام ، و لا تظهر كصاحبة سيادة ذات اتصال مباشر بالحياة الدولية. ومفهوم السيادة هو الذي تباشر الدولة بمقتضاه كافة سلطاتها و اختصاصاتها على إقليمها و في مواجهة كافة الأشخاص الذين يعيشون على هذا الإقليم , فالسيادة تشير بالأساس إلى السلطة العليا في الدولة قي إدارة شؤونها سواء كان ذلك داخل الإقليم أو في إطار علاقاتها الدولية ,إذن للسيادة وجهان :داخلي :علاقة الدولة بمواطنيها و داخل إقليمها بحدوده السياسية المعلومة ,و خارجي:علاقة الدولة بغيرها من الدول و الكيانات السياسية الدولة على أساس المساواة في السيادة. و وفقاً لمفهوم السيادة التقليدي , فإنه لا يجوز لأي طرف خارج الدولة التدخل في الشئون الداخلية لدولة أخرى , مهما كانت الظروف و الأحوال , فالسيادة تعريفاً هـي السلطـة التـي لا تعلوها سلطة في الداخل , و غير الخاضعة لأي سلطة أخرى في الخارج , إلا أن ما نراه من تغيرات على الساحة الدولية بعد الحرب الباردة , من تغير هيكل النظام الدولي من نظام ثنائي القطبية تسيطر عليه قوتان عظميان هما الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي السابق إلى نظام تنفرد الولايات المتحدة الأمريكية بالسيطرة عليه , هو بداية تحوّل سياسي جذري في تاريخ العالم السياسي و المفاهيم المؤطرة لعلاقاته , ففكرة السيادة المطلقة لم تعد مقبولة في نظر الولايات المتحدة , و لم يعد إطلاق يد الأنظمة الحاكمة في تحديد نطاق الشأن الداخلي أمرا مسلما به كما كان في الماضي ، بل أصبح تدخل المجتمع الدولي في بعض الأمور التي كانت في الماضي شأنا داخليا أمرا مقبولا , ففي ظل هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية ظهرت قضايا و علاقات و مؤسسات تعمل علي إزالة الحدود الفاصلة بين الشؤون المحلية و الشؤون الدولية , كما ظهرت مفاهيم جديدة متعددة من بينها: الاعتماد المتبادل ، المجتمع العالمي ، النظام العالمي ، الاقتصاد العالمي , و قد تم تقديم هذه المفاهيم كوسيلة لفتح نافذة للهيمنة على الشئون الداخلية , و إعادة تقييم معنى و وظيفة السيادة , فالحدود مثلاً, و التي هي إطار و وعاء الدولة و سيادتها , يزداد عجزها يوماً بعد يوم عن الوقوف في وجه ما لا يعترف بالحدود في الاقتصاد و الاتصالات و المعلومات , و قد شغل تأثير الهيمنة على مفهوم سيادة و وضعية الدولة القومية حيزا لا يستهان به من شواغل المحللين السياسيين ,اذ تسعي الهيمنة إلى إلغاء حدود الدولة القومية في المجالات الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية و تعميم نمط معين من الأفكار ليشمل الجميع , فمذ بداية تسعينيات القرن الماضي أصبح هدف الولايات المتحدة فرض النظام ألقيمي الأمريكي كنظام عالمي عبر صياغة (( الوعي الكوني )) و السيطرة عليه و فرض هيمنتها الآيدولوجية و إثارة النزعات القومية والعرقية والدينية و الاختلافات الثقافية . إن الهيمنة الأمريكية تعتمد آليات و مؤسسات عديدة , و امتدت الهيمنة الأمريكية إلى مجالات الحياة المختلفة سواء في السياسة أو الاقتصاد أو الإعلام أو الثقافة بوجه عام , فالنمو الاقتصادي الرأسمالي كما يستلزم وجود أسواق حرة ، يستلزم أيضا وجود أنظمة سياسية و شكلا معينا من أشكال الحكم ، و خلق بدائل و تعددية في القوى على مستوى السلطة , و منع تركيز القوة السياسية ، و منع تركيز الثروة في يد الدولة , و تحقيق درجة هامة من اللامركزية . و لذلك لم تكن مصادفة أن كانت الصيغة الديمقراطية الليبرالية في الحكم هي الصيغة التي ارتبطت بالمجتمعات الرأسمالية و تطورت معها ، أي مع الرأسمالية ذاتها . و قد كان انهيار الاتحاد السوفيتي أبرز مظاهر الارتباط بين التطور الرأسمالي و التطور الديمقراطي . و اعتبرت الولايات المتحدة الأمريكية إن الديمقراطية الليبرالية و قرينتها الرأسمالية هي نهاية التاريخ الإنساني ، و ان النموذج الأمريكي هو خلاصة و قمة التطور البشرى . و مع أن هناك فاعليات اقتصادية متعددة ، تنتمي لثقافات و بلاد مختلفة ، إلا أن الغلبة بين هذه الفعاليات تعود إلى مؤسسات أمريكية ، و بسبب احتلال الولايات المتحدة لمكانة الدولة العظمى الوحيدة ، فقد دعت إلى تبني النموذج الأمريكي في الاقتصاد و السياسة، و في طريقة الحياة بشكل عام. و إن أهم ما يميز الهيمنة الأمريكية هو وجه الهيمنة الاقتصادية , و أصبحت تلك الآليات مرتبطة بالمجموعات المالية و الصناعية الحرة عبر الشركات و المؤسسات متعدية الجنسيات , و بعبارة أخرى ، لم تعد الدولة القومية هي الفاعل أو المحدد الرئيس للفاعلية الاقتصادية على المستوى العالمي ، و إنما أصبح للقطاع الخاص الدور الأول في مجال الإنتاج و التسويق و المنافسة العالمية , كما أصبحت الشركات متعدية الجنسيات , و التي تتخذ العالم كله مسرحاً لعملياتها , تلعب دورا محوريا في هذا المجال , فباتت الوسيلة الأكثر فاعلية في تحقيق انتقال السلع و رأس المال و المعلومات و الأفكار , و من أبرز آليات الهيمنة الاقتصادية هو صندوق النقد الدولي ، و الذي يسهم في دعم اتجاهات الهيمنة , و من أبرز آليات الهيمنة السياسية و الأمنية هو هيمنتها على منظمة الأمم المتحدة , أما الهيمنة التكنولوجية ، التي تشمل التكنولوجيا المعلوماتية والتكنولوجيا العسكرية فقد أدت إلي انتهاك سيادة الدولة , فقد ترتب عليها تقريب غير معهود للمسافات بين مختلف مناطق العالم ، دونما اعتبار للحدود السياسية أو لمبدأ السيادة الإقليمية , فقد أنهت الثورة الاتصالية احتكار الدولة للمعلومة التي أصبح من السهل الحصول عليها من مصادر متعددة . و اتضحت اعتداءات الهيمنة الأمريكية على سيادة الدولة في الحرب على العراق عام 1991 . و تصرفها بشكل انفرادي خارج إطار الأمم المتحدة و مجلس الأمن الدولي .