ارتبط كيان الدولة ــ منذ أن وجدت ــ بوظيفة الأمن، كان ذلك واضحا في كل الدول والإمبراطوريات التي قامت عبر التاريخ، حتى صار من بديهيات علم السياسية أن وظيفة الدولة الأولى كانت: الحماية.ورغم اختلاف التجارب الخاصة بكل دولة، إلا أن هناك تشابه واشتراك في تطور التفكير بالأمن، الذي ارتبط أول الأمر بالجانب العسكري بشكل مطلق، واعتمدت الدول على قوتها العسكرية ــ ضمن تلك الفكرة الأولى ــ في بقاءها؛ وقدرتها على الحماية والأمن.إلا ان بناء جيش قوي يتطلب ــ فضلا عن الأفراد المقاتلين ــ توفير موارد مالية، تُمَّكن من تجهيزه، والإنفاق على جنوده وقادته، وحين قامت الإمبراطوريات الكبرى، أخذت طموحاتها تنمو من مجرد حماية مواطنيها، إلى الرغبة بالتوسع، مما قاد إلى زيادة عديد الجيوش، بل حتى تطور فكرة الأمن ذاتها إلى التوسع، ومنع المنافسين من القدرة على القيام بالمثل.كل هذا قاد ــ خلال الصيرورات التاريخية للدول ــ إلى ظهور النظريات المختلفة حول الأمن، وتطور وظائف الدولة عبره، وتطور مفهومه عبر وظائف الدولة ذاتها، لارتباطهما المعقد معا، والاعتماد المتداخل بينهما على بعض، وامتداد مفهوم الأمن ليشمل جوانب أخرى لا تقتصر على البعد العسكري، تتعاضد مع بعضها، لتنصهر في هدف واحد هو: الأمن الوطني.إذ تضافرت العوامل التاريخية تلك وقادت إلى تجاوز زاوية تناول الأمن من منظوره العسكري وحسب، وصار الباحثون إلى بلورة رؤية شاملة للمفهوم، تقوم على أساس من أربعة أركان هي: السياسة، والثقافة الاجتماعية، والاقتصاد، والركن العسكري، وهي تعتمد على بعضها تماما، وكلما ازدادت قدرة النظام السياسي في دولة ما على استثمار الموارد المتاحة في هذه الجوانب مجتمعة، وتوظيف مخرجاتها في مجرى واحد، زادت قدرته على الوصول بها إلى مستوى أعلى من المنعة، القدرة على حفظ الامن الوطني.وفي سبيل تحقيق هذا الهدف، يتبع النظام السياسي أساليبا، ويضع خططا، ويصوغ رؤى، ويتخذ قرارات، ويخصص مواردا، ويوزع الأدوار، أي: يتبع سياسة عامة.ولكن ما تحاول الرسالة إدماجه في رؤية الأمن الوطني بأركانه الأربعة هو مفهوم التنمية، المفهوم الحديث الذي انبثق ضمن الأطر الاقتصادية، ثم تطور تدريجيا ليمتد ــ فضلا عن الجانب الاقتصادي ــ إلى نواحٍ عديدة تتصل بالسياسة والثقافة بما تحتويه من عناوين واسعة، ومحاولة إسقاط مفهوم التنمية، وأهدافها ضمن الأمن الوطني وأهدافه، عبر تلك الأركان الأربعة التي تشكل مرتكزات للوحدة في العديد من الأهداف التي يقوم عليها كلا المفهومين، التنمية والأمن الوطني.ومنذ التغيير الذي شهده العراق في أعقاب الاحتلال الامريكي أبان العام (2003)، وحتى اليوم، شكل الأمن الهاجس الرئيس، والعنوان الأبرز، وحجر الزاوية في كل فعل سياسي، رسمي أم غير رسمي، وهيمن بظله على كل نواحي الحياة، وأثقل المجتمع، والبلد، بتداعياته والجدل حوله، ووجهات النظر المتعلقة به.وفي سبيل تتبع مسار الأمن الوطني في العراق، وما هو كائن، وما يجب ان يكون، فإن من الدقيق والمهم جدا أن لا نسقط في فخ السرد التاريخي المسهب، أو الإخلال بالمعلومات التاريخية الكافية لتحليل الوضع، الأمر الذي يشكل تحديا صعبا.من جانب آخر، من المهم الملاحظة أن الأمن الوطني عموما الذي ارتبط بالدولة ــ كوظيفتها الأساس التي يقوم بها النظام السياسي ــ أخذ منحى خاصا في الحالة العراقية بعد عام (2003)، تمثل في إعادة تأسيس النظام السياسي، على أساس من القطيعة مع النظام السابق، ضمن تركة تاريخية متأزمة، رافقتها اختلالات بنيوية معقدة تطرقت لها الدارسة، مما حتم أن يتسع الركن السياسي في المنظومة الفكرية الجامعة للأمن الوطني التي تسير الرسالة ضمنها، ليشمل دراسة إعادة تأسيس النظام السياسي، وصورة الدولة المنعكسة عبره، ثم تفاعل بقية أركان الأمن الوطني في هذه التركيبة.