إن المواقف التي تتخذها الدول في سياستها ودورها الخارجي تنبعث أولاً وقبل كل شيء من مصالحها، ولا تلام دولة حين تضع مصلحتها القومية فوق أي اعتبار أخر، عندما ترسم سياستها وتتخذ قراراتها، ولكن هناك بعض المبادئ والقيم الإنسانية أيضاً، التي لا مناص للدول من الالتزام بها، لأنها ترى نفسها إزاء مسؤولية تاريخية، أن هي تجاهلتها أو خرقتها، فإذا صادف أن كانت تلك المبادئ متفقة مع مصالح الدولة، ارتفع صوتها عالياً بإسم تلك المبادئ، أما إذا كانت مصالح الدولة على طرفي نقيض مع تلك المبادئ، حاولت إيجاد المسوغات لتفسير مواقفها المتناقضة مع تلك المبادئ والقيم، ولكن الذي يحدث عملياً في معظم الحالات هو أن تضحي الدولة بجزء من مصالحها دون تعريض أمنها القومي للخطر ولكي تجعل سياستها متفقة مع المبادئ التي طالما نادت بها، ومع قواعد القانون والسلوك الدوليين .إن الإحداث المتسارعة التي مر بها الشرق الأوسط بعد إحداث الحادي عشر من أيلول جعلت من جميع الدول في هذا الإقليم تفكر مليا في أعادة بناء استراتيجياتها وسياساتها وفق المتغيرات الحاصلة و ذلك سعيا منها في الحصول على نفوذ متزايد ومؤثر في الإقليم . أظهرت أحداث الحادي عشر من أيلول والهواجس الأمنية المستجدة وتداعيات احتلال العراق وبروز ظاهرة الإرهاب الدولي والثورات العربية تأثيرات واضحة على الأوضاع الجيوسياسية والإستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط التي يشكل الوطن العربي جزءها الأكبر وتشكل تركيا جزءا مهما فيها وذلك بحسب الأطروحات الجديدة للشرق الأوسط(الجديد أو الكبير) وتعبر هذه الرؤى عن اهتمامها بمنطقة الشرق الأوسط بالأساس من منطلقات الاستجابة للموقع الجيوسياسي الذي يفرض على تركيا الاهتمام بالبنية الإقليمية المحيطة كمصدر تهديد للأمن القومي أو العلاقات الاقتصادية ذات المردود الكبير للصالح الوطني أو كمجال حيوي للحركة والنفوذ الإقليمي والدولي ومن هنا فأن تركيا معنية بشكل كبير وبصورة مباشرة بمجريات الأحداث في منطقة الشرق الأوسط من اجل تدعيم مكانتها الإقليمية والدولية.وتكمن أهمية تركيا في كونها تنتمي في إن واحد لرافدين مختلفين: الغرب أوالقارة الأوربية، والشرق الأوسط أو القارة الأسيوية، فهي تحتل موقعا جغرافيا يعد نقطة الوصل بين العالمين الغربي والشرقي، وتقع ضمن امتداد عرقي يضمها إلى محيطها الطوراني في أسيا الوسطى والطورانية هي حركة سياسية شوفينية تركية ، نشأت في أواخر القرن التاسع عشر واستهدفت توحيد جميع أبناء العرق التركي لغوياً وثقافياً وسياسياً ، والتسمية مأخوذة من (طوران) وهي الوطن التركي القديم في أواسط آسيا، وقد قامت هذه الحركة بمحاولات التتريك الثقافي والسياسي في ولايات الخلافة العثمانية وكذلك تشغل منطقة تنتمي إلى الشرق الأوسط بالمعنى الثقافي والحضاري تدفعها إلى قلب السياسات الشرق أوسطية؛ لذلك فان اهتماماتها الإستراتيجية تمتد إلى ثلاث دوائر إقليمية يفرضها عليها الموقع الجغرافي وهي: الدائرة الأوربية والدائرة الشرق أوسطية ومنها المنطقة العربية ودائرة أسيا الوسطى وتشكل كل هذه الدوائر فضاءات لحركة تركيا الإقليمية ونفوذها الدولي وقدراتها السياسية والاقتصادية والعسكرية ولرغبتها في أداء دور أوربي إسلامي شرق أوسطي في إن معا، وعليه فقد سعت تركيا إلى تعزيز مصادر قوتها سواء على الصعيد الاقتصادي والعسكري وتكثيف نفوذها السياسي بطرح نفسها كطرف فاعل في إي ترتيبات حالية ومستقبلية في منطقة الشرق الأوسط ومن هنا إن حديث الرئيس التركي الأسبق (ترغورت اوزال 1983_1989) (بأن تركيا هي أقوى دولة في الشرق الأوسط وهي قويه بما فيه الكفاية للنهوض بدورها الخاص وليس كشرطي للغرب في المنطقة بل هي تتطلع إلى أن تكون في المستقبل القريب القوة الرابعة في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا والصين مازال هو الدرب الذي تسير عليه الإستراتيجية التركية حتى الوقت الراهن.إن التوجه التركي على لعب دور في المنطقة ليس بالأمر الجديد فهي دولة شرق أوسطية ومن الصعب إن تدير ظهرها للمنطقة ولكن الجديد هو المدى الذي ستندفع فيه تركيا والذي لم يقتصر على النواحي الاقتصادية والأمنية حسب بل يتعدى ذلك إلى لعب دور مهم في الجوانب السياسية وخصوصا مع الوضع الاستراتيجي التركي المهم في المنطقة وتتميز الإستراتيجية التركية ببراعة كبيرة في التعامل مع الدول العربية والإسلامية بأساليب متنوعة مع عدم المساس بمصالحها وارتباطاتها مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي على أساس إن جوهر هذه الإستراتيجية هو(توفير الحماية الفاعلة للمصالح القومية والإسهام في إحلال السلام في منطقة الشرق الأوسط والعالم وتتوفر الفاعلية لتلك المصالح عبر التزام الرؤية عند الجانب التركي بانتهاج (البرغماتية) يتسم بقدر عالي من المرونة وتنوع الخيارات في سبيل استيعاب ما يثار من اعتراضات إقليمية عبر إقامة علاقات ايجابية وتعاونية بقدر تستطيع معه أن تجد مكانها المتميز في الشرق الأوسط فعليه يتمثل التوجه التركي نحو المنطقة بترتيبات جديدة للعلاقات السابقة ويضمن هذا الأمر لها استمرارية تعزيز مصالحها العليا كون المنطقة وبالأخص الدول العربية تمثل الخيار الاقتصادي والتجاري ذا المزايا الايجابية الكبيرة ومنها القرب الجغرافي والأسواق المفتوحة ومصادر الطاقة مما يعني الابتعاد عن النظر إلى تركيا بأنها لا تبدي اهتماما للاعتبارات الدينية والتاريخية المشتركة وأنها تنأى بنفسها عن كونها عضوا في المنطقة من الناحية الثقافية والسياسية. لقد أدركت تركيا حاجتها في العثور على التوازن الصحيح بين المصالح القومية وبين دورها في الشرق الأوسط الذي يجب أن تكون فاعلا فيه. ويقصد بالتوازن أن تصوغ تركيا خياراتها تجاه أي من القضايا استنادا إلى الدور الذي يجب أن تقوم به ومن الأمثلة على ذلك فقد تراوحت أدوارها بين المراقبة (حرب الخليج الثانية 1991) ودور التورط الكامل (الإعمال العسكرية في شمال العراق ضد حزب العمال الكردستاني التركي المعارض) وهناك خيارات متوسطة تقع بين المحدودية والتصاعد (دورها في القضية الفلسطينية والحرب على العراق 2003 وحرب تموز 2006) وأخيرا التعامل البرغماتي مع الثورات العربية ومحاولة كسب الأطراف السياسة الجديدة إلى جانبها) وعدم الاستثناء من السياسات والترتيبات الجاري تصميمها في الشرق الأوسط.ومن هنا جاء الدور التركي الجديد بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم وسعيه من اجل مد النفوذ التركي وبناء إستراتيجية التأثير في إقليم الشرق الأوسط حتى تكون تركيا المؤثرة و الفاعلة في الإقليم وليست من الدول الهامشية فيه، ومن هنا وبفعل الأحداث والتطورات السياسية التي أعقبت أحداث الحادي عشر من أيلول )سبتمبر) 2001، وفي إطار الحرب على الإرهاب، وما نتج عنه من تغير حاد في الأوضاع الإقليمية والدولية في المنطقة العربية تحديداً، وجدت الحكومة التركية الجديدة، التي تشكلت في العام 2002 بقيادة حزب العدالة والتنمية نفسها أمام تحديات حقيقية، وأمام اختبار حقيقي لموقعها ودورها في المنطقة خصوصاً وأن الاحتلال الأمريكي للعراق خلف واقعاً جديداً على حدودها الجنوبية الشرقية، متمثلاً في أحياء تطلعات الأكراد بإقامة إقليم كردستان شمال العراق، وما يترتب على ذلك من خطورة بالنسبة لتنامي النزعة الانفصالية لأكراد تركيا، وكذلك حرصت تركيا على توطيد علاقاتها بدول الخليج العربي النفطية والتي تعدها أسواقا جديدة للشركات النفطية، وكذلك لا ننسى أن تركيا الجديدة في ظل حكومة ذات توجه إسلامي تنتهز الفرصة لتعيد رسم وصياغة توجهات دورها الخارجي، بل أكثر من ذلك تعيد تموضعها الجغرافي والسياسي باتجاه يمكن تسميته بعمقها الحضاري والتاريخي في المنطقة العربية .إن تركيا في المرحلة الراهنة تصوغ سياسة تختلف كلياً عن السياسة التقليدية التي مارستها سابقاً، فتركيا بزعامة التيار الإسلامي تبدو فاعلة دبلوماسية وإستراتيجية عبر التحول الناشط لإعادة التمركز بعد تراجع دورها كقاعدة غربية متقدمة في الحرب الباردة في مواجهة الاتحاد السوفيتي آنذاك. ومن الواضح إن تركيا اليوم ترمي ثقلها الاقتصادي والسياسي لممارسة دور قوي في المنطقة العربية، وتقديم إنموذج لمشروع دولة إسلامية مدنية حديثة يمكن الاقتداء بها في المنطقة، فضلاً عن ذلك تحاول تركيا عبر تزايد انغماسها في أزمات المنطقة وقضاياها أن توصل رسالة إلى الأوروبيين والأمريكيين على حد سواء، بأنها قادرة على ممارسة دور سياسي واقتصادي قوي ومستقل في المنطقة، ومن ثم فعلى الغرب أن يعلم أنه لا يمكن أن يستبعد تركيا من أي معادلة أو تسوية في الشرق الأوسط أوالمنطقة العربية، فتركيا وإن لم تكن قادرة وحدها على تكريس ورسم تفاعلات سياسية من نوع جديد في المنطقة، ولكنها في الأقل قادرة على عرقلة أي ترتيبات أو مشاريع غربية خاصة في الشرق الأوسط تتم بمعزل عنها، فتركيا بدأت برسم إستراتيجية مختلفة اتجاه العالم العربي، على خلاف سياستها القديمة في إثناء الحرب الباردة، وذلك من خلال مد الجسور مع العالم العربي ومحاولة ترتيب وجهات النظر بين الإطراف الإقليمية المتنازعة ومحاولة ردم هوة الخلاف المحتدم على الساحة الفلسطينية بين حركتي (فتح وحماس)، وهي تقف على حياد كامل فيما يخص الانقسام العربي وسياسة المحاور التي تزداد اتساعاً مع الوقت والحقيقة أن مواقف تركيا الأخيرة إزاء الحرب الإسرائيلية على غزة وإيقافها جهود الوساطة بين سوريا وإسرائيل إلى أجل غير مسمى وأخيرا طريقة تعاملها مع دول الثورات العربية ومحاولات توظيف عملية التغيير في الوطن العربي التي جاءت عقب (الربيع العربي) في كسب النفوذ المؤثر في هذه الدول ومن ثم موقفها من الأزمة السورية والابتعاد التام عن التناغم السابق مع سوريا خلال العقد المنصرم إلى تقاطع حاد قد يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه، كلها أمور تؤكد أن تركيا دولة ذات سيادة وهي تعطي امثلة سياسية ودبلوماسية للنظم العربية في كيفية إدارة علاقاتها وتحالفاتها مع الغرب.