فرضت الظروف والمتغيرات الدولية التي شهدها العالم دولاً وشعوباً، على الدول تبني اساليب من التخطيط الإستراتيجي في المجالات كافة ،تلك الأساليب وان تباينت في مدياتها وطرائقها ، الا انها بقيت معتمدة على التنبؤ بالمستقبل على وفق دراسة معطيات الماضي ، وربطه بالحاضر ومعطياته ، لاستشراف المستقبل الذي تسعى الدول جاهدة لتحقيق اهدافها القومية فيه حتى اصبح لكل مجال تخطيط خاص به. فيما ظل التخطيط الإستراتيجي ، معنياً بتحديد معالم الطريق الذي تسير فيه الدول في المستقبل. وتعد الولايات المتحدة الأمريكية واحدة من أهم الدول التي تبنت التخطيط الإستراتيجي في صناعة واتخاذ القرارات الإستراتيجية لتحقيق مجموعة من الاهداف القومية ،الذي استدعى توافر الوسائل والادوات المتعددة التي تستعمل لتحقيق الغاية المنشودة . ولأجل ذلك اضطلعت مؤسسات عدة بصنع الإستراتيجية الأمريكية مثل مؤسسة الرئاسة، والكونغرس، ومجلس الامن القومي، ووزارة الدفاع... وغيرها، فضلاً عن مؤسسات وهياكل غير رسمية تشارك في عملية صنع الإستراتيجيات والسياسات وتؤثر بشكل فعال مثل المجمع الصناعي – العسكري الأمريكي ومراكز ومعاهد البحوث والدراسات (مراكز الفكر) وبشكل اوسع جماعات الضغط والرأي العام الأمريكي، لذلك تعدّ عملية صنع القرارات ، و الإستراتيجيات والسياسات من العمليات المعقدة. ونظراً لأهمية العراق الإستراتيجية في المدرك الإستراتيجي الأمريكي ، بما يمثله من موقع جغرافي مهم ومؤثر ، وثروات طبيعية ،نجد ان الولايات المتحدة الأمريكية ، توجهت في تخطيطها الإستراتيجي نحو العراق منذ بداية تنفيذ مخططاتها الإستراتيجية العالمية بعد الحرب العالمية الثانية ، الا ان ذلك التوجه كان مقتصراً على الجانب الاقتصادي ، ولاسيما النفط . لقد مثلت السياسات العراقية ،بدءاً من الخروج عن حلف بغداد وحتى نهاية سبعينيات القرن المنصرم تهديداً واضحاً للمصالح الإستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية ، ألأمر الذي دفع دوائر صنع القرار الإستراتيجي فيها الى التخطيط لغرض احتواء العراق ، وهوما وفرته الحرب العراقية ـ الايرانية (1980 ــ 1988) .اذ وجدت الولايات المتحدة الأمريكية فيها الفرصة السانحة لاحتواء الدولتين بوصفهما من اكثر دول المنطقة تهديداً للمصالح الإستراتيجية الأمريكية . الا ان نتائج تلك الحرب قد حملت ما لا يرضي الولايات المتحدة الأمريكية . وبعد انتهاء تلك الحرب تنامت القدرات العسكرية العراقية، وتطورت صناعته الحربية ،(قياساً بما كانت عليه قبل الحرب)،فضلاً عن محاولته تحقيق التوازن الإقليمي للتسلح مع الكيان الصهيوني ، ولذلك عدت الولايات المتحدة الأمريكية العراق بقدراته وامكاناته وتوجهاته المناهضة لسياستها ونفوذها ، أشبه بتهديد خطير لمصالحها الحيوية في المنطقة ، ولأمن (اسرائيل) ، خصوصاً ان موقع العراق يتيح له المساس بتلك المصالح ، وهنا كان لابد من تحطيم قدرات العراق العسكرية و الإقتصادية والسياسية والفكرية ، وكانت حرب الخليج الثانية 1991 الفرصة الملائمة لذلك اذ تزامن ذلك مع التحول الذي شهدته البيئة الدولية ، والمتمثل بتفكك الاتحاد السوفيتي وزواله ، وانفراد الولايات المتحدة في الساحة الدولية.لقد مثلت احداث 11/ايلول/2001 ، نقطة التحول الرئيسة في التوجه الإستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية ليس تجاه العراق فحسب، بل تجاه العالم اجمع. اذ عرفت الولايات المتحدة تضامناً عالمياً ، لجهة الاستعداد لتقبل قيادتها في مواجهة الإرهاب في العالم. وكان يمكن للإدارة الأمريكية أن تفيد من هذا التأييد في توليد جبهة عالمية لمكافحة الإرهاب، لكنها أعلنت نفسها فوراً المسؤولة الوحيدة عن مكافحة الإرهاب، وحددت جملة مبادئ وقواعد جديدة في العلاقات الدولية، كان أبرزها إمكان إعلان حرب وقائية تشنها الولايات المتحدة في أي مكان في العالم ترى فيه تهديداً لأمنها، واستعمال كل الوسائل بما فيها التدخل العسكري وتغيير الأنظمة السياسية القائمة، واستحداث (قيم أخلاقية( تصنف الدول على أساس الخير والشر، وتكريس قاعدة: )من ليس معنا فهو ضدنا(.ليغدوا الشرق الأوسط من أهم المناطق التي تطورت بها المصالح الإستراتيجية الأمريكية ويأتي العراق على رأس قائمة دول المنطقة ،التي لا تتوانى من صنع و إبتكار الحجج لأحتلاله ، منطلقة من تحديد مصالحها وأهدافها الإستراتيجية في العراق سعياً منها لتحقيق إستراتيجيتها على صعيد المنطقة وإعادة تشكيلها، فضلاً عن توسيع بقعة الوجود العسكري الأمريكي وإحكام السيطرة على النفط ومن ثم تعزيز الهيمنة الأمريكية على العالم. ولهذا تأتي في دراستنا لتتناول واقع التخطيط الإستراتيجي الأمريكي واثره في صياغة الإستراتيجية الأمريكية وصنع القرار الأمريكي باحتلال العراق و الإنسحاب منه .