السياسة الخارجية التركية حيال العراق بعد أحداث آب عام 1990 وآفاق المستقبل

number: 
1381
عربية
Degree: 
Author: 
علي هاشم عبد الله
Supervisor: 
الدكتور فكرت نامق عبد الفتاح العاني
year: 
2011

منذ تأسيس الجمهورية التركية امتلكت تركيا خصائص الدور الإقليمي النابعة من طبيعة الموقع الجغرافي وتأثيراته، فقد أتاح تحكمها التام في المضايق، بِعدّها المجرى المائي الوحيد الذي يربط بين البحر الأسود والدول المطلة عليه، والبحر المتوسط ودوله، السيطرة على خطوط المواصلات العالمية الرئيسة، كما إن إطلالتها على الأجسام المائية (البحر الأسود، ومرمره ، وإيجة، والمتوسط) ذات المواصفات الملاحية المهمة خاصة تلك الدافئة منها والمفتوحة أعطت تركيا أهمية كبيرة في الإستراتيجية البحرية الدولية والإقليمية، فضلاً عن موقعها البري المجاور للاتحاد السوفيتي السابق والأقطار الأخرى . هذا الموقع حتم عليها، مع عوامل أخرى : أن تكون طرفاً في الحرب العالمية الأولى (1914 ــ 1918)، والتي إنتهت بتمزيق أوصال الدولة العثمانية، وهو الموقع ذاته الذي جعل منها محط أنظار القوى المتصارعة خلال الحرب العالمية الثانية (1939 ــ 1945)، بعدما قررت إبتداءاً (الحياد) كما إن محاولات إستمالتها والضغط عليها من قوى المعسكرين : الشرقي والغربي، الذي إنضوت تحت مظلته في إطار الحرب الباردة لموالاة إحداهما ضد الآخر هو انعكاس لما تملكه من موقع استراتيجي يساعد في إتمام التحالفات التي أريد بها إحكام الطوق حول الاتحاد السوفيتي السابق . ولذا كان لابد لتركيا ان تنتهج سياسة تحقق مصالحها وتضمن امنها وحماية حدودها مع جيرانها، وبالاخص مع العراق، والتي تمتلك معه تاريخ مشترك ومصالح متبادلة فرضت ضرورة التعاون لاالصراع في مسائل كثيرة، سيما وان العراق وتركيا دولتان متجاورتان تربطهما علاقات موغلة في القدم، فضلاً عن إنهما يتشاركان في الحدود والمياه، هذه المسائل فرضت على تركيا الحديثة على يد (كمال اتاتورك) أن تؤسس علاقات جيدة مع العراق .
وفي بداية عقد التسعينات من القرن الماضي كانت المخاوف تجتاح تركيا بسبب تفكك الاتحاد السوفيتي، وعلى اثرها فقدان موقعها الاستراتيجي بالنسبة للولايات المتحدة الامريكية والدول الغربية، الا ان قيام حرب الخليج الثانية في العام 1990، أنقذت تركيا من هذه المخاوف، وسرعان ما اشتركت ولو بشكل جزئي في الحرب، بفتحها المجال الجوي وقواعدها العسكرية امام قوات التحالف الدولي ضد العراق، واثبتت إنهّا (تركيا) لا يمكن أن تفقد أهميتها الجغرافية على الرغم من تغير البيئة الدولية من القطبية الثنائية إلى القطبية الأحادية . وعلى الرغم من ذلك ادت الحرب الى خسائر كبيرة لتركيا سواء في الجانب الاقتصادي أم الامني، ففي الجانب الاقتصادي : جاءت حرب الخليج الثانية، وما تلاها من حصار اقتصادي سبب خسائر كبيرة جداً، وخصوصاً الفائدة التي كانت تدر عليها اثر مرور النفط العراقي داخل الاراضي التركية نحو الاسواق العالمية، فضلاً عن ان العراق كان بوابة تركيا نحو الخليج العربي، وتمر تجارتها البرية داخل الاراضي العراقية نحو تلك البلدان. اما من الناحية الامنية : فأحدثت الحرب فجوة أمنية داخل الاراضي العراقية إثر سيطرة اكراد العراق على منطقتهم بعد العام (1991)، الامر الذي شكل مخاوف كبيرة لدى تركيا، وسبب لها مشكلات لا تحسد عليها منذ ذلك الحين، إذ تعاني تنامي نفوذ حزب العمال الكردستاني، وجعل للمناطق الكردية داخل العراق موطئ قدم لها، والقيام بعمليات عسكرية داخل الاراضي التركية إنطلاقاً من الاراضي العراقية، واجبرت تلك الأوضاع تركيا على عدم الوقوف مكتوفة الايدي تجاه هذه المتغيرات الخطرة بالنسبة لها، وقيام تركيا بحملات عسكرية، واجتياح الاراضي العراقية، إلاّ أنهّا لم تستطع كبح جماح (pkk) حزب العمال الكردي التركي، فضلاً عن المشكلات التي وصلت الى حد الانفجار مع سوريا بسبب إتهام تركيا لسوريا باحتضان ودعم حزب العمال الكردستاني التركي داخل اراضيها، إذ أصبحت تركيا متورطة في شمال العراق، وفي هذا إنتهاك لاحد مبادئ سياستها الخارجية، والتي تشير الى ((عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية))، وقد ظهر ذلك واضحا في سلسلة الاختراقات والضغوط التركية على العراق، والتي تمثلت بعمليات الغزو العسكري المستمر لشمالي العراق بحجة تعقب عناصر حزب العمال الكردستاني، وتدمير قواعده، مستغلة غياب السلطة المركزية العراقية، لتنفيذ ما خطط لها من قبل الولايات المتحدة الامريكية من اعمال إستهدفت سيادة العراق لتأكيد اختلال توازن القوى بينها وبين العراق لمصلحتها، بعدما لحق بالقدرات العسكرية العراقية من ضرر بسبب العدوان الثلاثيني وقرارات مجلس الامن، لذلك أخذت تثير التحديات وما رافقها من دعوات لتعديل الحدود مع العراق، والمطالبة شبه العلنية بمنطقتي الموصل وكركوك، وادعاء حماية التركمان في العراق، وممارسة نشاطها في المنطقة، واقتراح إقامة المنطقة الأمنة وابقاء ما سمي بـ ((قوة المطرقة))، وإقامة علاقات مع الزعماء الاكراد في شمالي العراق، واستخدام المياه للضغط على العراق . كل ما تقدم ذكره كان سبباً لقلق العراقي المتنامي إزاء السياسة الخارجية التركية حيال العراق . وهكذا، فإنّ الإدراك التركي في تقدير الاهمية الاستراتيجية لمصالحها الحيوية، وتفاعلها مع المتغيرات الاقليمية والدولية تلعب دوراً اساسياً في رسم سياستها الخارجية حيال المنطقة العربية بشكل عام، والعراق بشكل خاص، بعد أنّ أصبحت بفعل المتغيرات الدولية مسرحاً للصراع والتنافس الدوليين، شغلت فيها تركيا موقعا مهما ضمن الاستراتيجيات الكونية لهذه القوى. وتأسيساً على ذلك، بدأت تركيا تراجع سياساتها، وتبحث عن بدائل تعوض بها عما خسرته من مزايا كانت تتمتع بها ابان الحرب الباردة، والصراع بين المعسكر الراسمالي بقيادة (الولايات المتحدة الامريكية)، والمعسكر الشيوعي بقيادة (الاتحاد السوفيتي)، ولعل من ابرز التوجهات التركية الجديدة في هذا المجال : تحالفها الاستراتيجي مع الكيان الصهيوني، إذ سعت للاستفادة من ذلك في تنمية قدراتها العسكرية والتسليحية، وتطوير تعاونها الامني لتحقيق مصالح متماثلة معه، هذا فضلاً عن إبقاء استعدادها مفتوحاً لارضاء الولايات المتحدة الامريكية التي أصبحت القوة العظمى الاولى المنفردة، وخدمة اهدافها ومصالحها ومخططاتها العدوانية ازاء العراق . لكن مع إستلام حزب العدالة والتنمية الحكم في تركيا في العام 2002، تغيرت المعطيات كلياً، وعمل الحزب وقادته على احداث تغيرات داخلية سياسية واجتماعية واقتصادية، وعلى استغلال المعطيات الجيو ـ سياسية والجيو استراتيجية لتحويل تركيا الى قوة كبرى في الوقت الذي تشهد فيه خارطة الشرق الاوسط إعادة تشكيل وتوزيع لمراكز القوة والسلطة والقرار، وتتزاحم فيه القوى الاقليمية على حجز مكان لها في الخارطة الجيو ـ استراتيجية، التي نشأ بعد إنهيار البوابة الشرقية للعالم العربي اثر احتلال العراق من قِبَل الولايات المتحدة الامريكية، فمع وصول حزب العدالة والتنمية الى السلطة بدأ المشهد التركي يتغير داخلياً وخارجياً، إذ لم تكن سلطة حزب العدالة والتنمية مجرد تغيير في شكل السلطة الحاكمة ، بل حمل حزب العدالة والتنمية مشروعاً اتاح لتركيا خلال سنوات معدودة ان تكون طرفاً مؤثراً في الصعيدين : الاقليمي والدولي، وإذا كان العنوان الاوربي وبدء مفاوضات العضوية مع الاتحاد الاوربي، هو الانجاز الابرز دولياً، فإنّ سياسة تعدد المحاور التي انتهجها الحزب في السياسة الخارجية على الصعيد الاقليمي خاصة، كان لها تأثيرات ايجابية في علاقات تركيا مع الدول العربية والاسلامية بشكل عام، والعراق بشكل خاص، فبموجب هذه السياسة نجحت تركيا في اقامة اوسع شبكة علاقات اقليمية . ونجح الحزب وقادته (اردوغان، وغول، واوغلو)، في دفع تركيا نحو الارتقاء الاقليمي والدولي، عبر تعزيز قوتها الناعمة (SOFT Power)، وجعلها انموذجاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً على مستوى المنطقة، ترافق ذلك مع صياغة نظريات ومفاهيم تركية تتناسب مع متطلبات الصعود، مثل :العمق الاستراتيجي ، ودبلوماسية تصفير المشكلات بشكل يجعل من تركيا المركز الذي تدور حوله باقي الدول في المنطقة، ويجعلها تؤدي دوراً اقليمياً فعالاً، كما يقول وزير خارجية تركيا أحمد داوود أوغلو .