السياسة الخارجية التركية حيال سوريا بعد الحرب الباردة

number: 
1485
عربية
Degree: 
Author: 
بلال طلال حمد الجوادي
Supervisor: 
الدكتور صالح عباس الطائي
year: 
2012

مثلت تركيا بحكم موقعها الجغرافي دور الدولة الحاجزة بين المعسكرين الشرقي والغربي إذ بان الحرب الباردة، هذا الدور حتم عليها انذآك إتباع سياسة خارجية ذات بعد اُحادي، أي أن تكون سياستها الخارجية انعكاساً لحقيقة هذا الموقع ولطبيعة هذا الدور، فقد كان للأطماع السوفيتية في الأراضي التركية، والرغبة الجامحة في اكتساب تواجد عسكري في منطقة المضايق والمياه الدافئة، ومحاولات التغلغل ومد التأثير الأيدلوجي (الشيوعي) في تركيا، عاملاً رئيسياً في دفع الأخيرة للاتجاه نحو الغرب كحليف استراتيجي يصون أمنها القومي، وقد ترتب على هذا الموقف أن تمحورت سياستها الخارجية حول أهمية وظيفتها الأمنية والعسكرية في إطار الحلف ودوره في خدمة مصالحها التي أخذت تتوافق مع مصالح حلفائها، يضاف إلى ذلك إن المبادئ الأساسية التي قامت عليها السياسة الخارجية التركية منذ تأسيس الجمهورية التركية عام 1923 م، والتي وضع اُسسها مؤسس الجمهورية ( مصطفى كمال أتاتورك)، كانت تقوم في إحدى أركانها على التوجه نحو الغرب من أجل التقدم والتطور، ونتيجةً لذلك كانت توجهات السياسة الخارجية التركية تأتي في سياق الأهداف والمصالح الغربية، وبما إن تركيا لديها حدود مشتركة يصل طولها إلى ما يقارب ال ( 850 ) كم مع سوريا التي تنتمي إلى المعسكر الشرقي، فقد كان لذلك أثره على السياسة الخارجية التركية تجاه سوريا مابين 1945 م- 1990 م، التي شهدت حالة من المد والجزر، إذ إنها مرت بتوترات في معظم الأحيان بسبب المشاكل الثنائية بين البلدين ( وخصوصاً مشكلة الأكراد، والمياه، والاسكندرون)، وبسبب المشاكل والتوترات الدولية بين المعسكرين الشرقي والغربي وانتماء كل طرف إلى معسكر مختلف، حتى وصفت الحدود بين البلدين بأنها خط الصراع بين المعسكرين الشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي (سابقاً)، والغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك تخلل هذا التوتر في السياسة الخارجية التركة تجاه سوريا بعض الانفراج أبان الحروب التي خاضتها سوريا إلى جانب الدول العربية ضد إسرائيل مابين 1967 م 1973- م، ووقوف تركيا إلى جانب العرب فيها. ومع انتهاء الحرب الباردة عام 1990 م بتفكك الاتحاد السوفيتي (سابقاً)، استمرت السياسة الخارجية التركية تجاه سوريا على نفس النهج الذي كانت تسير عليه خلال حقبة الحرب الباردة من ناحية التوتر والتأزم والتصعيد تجاه سوريا، والذي كان سببه هذه المرة المشاكل الثنائية بين البلدين والتي تعود جذورها لحقبة الحرب الباردة، وهي مشكلتي الأكراد والمياه، وتداخل هذه المشكلتين مع بعضها البعض بقيام تركيا بإستخدام مشكلة المياه كورقة ضغط على سوريا لدعمها الأمر الذي دفع سوريا إلى زيادة دعمها له رداً على هذا ،(PKK) لحزب العمال الكردستاني الإجراء التركي، وكان لتأثير نخب صناع القرار في تركيا أثرهم في هذا الصعيد، إذ إن هذه النخب هي نخب علمانية معروفة بعدائها للعرب ولدول الشرق الأوسط، وخصوصاً المؤسسة العسكرية التي كانت تعارض أي إنفتاح وتقارب تركي مع سوريا بعدها من الدول التي تهدد الأمن القومي التركي، وإلتزاماً منها بالمبادئ التي وضعها (مصطفى كمال أتاتورك) لتركيا والمتمثلة بالتوجه نحو الغرب والانعزال عن دول الشرق الأوسط، وكان لأي محاولة تقرب مع سوريا تجابه من قبل المؤسسة العسكرية والنخب العلمانية بالرفض كما حصل مع الزعيم التركي الراحل نجم الدين أربكانز ما كان لتأثير المتغيرات الإقليمية والدولية أثرها في السياسة الخارجية التركية تجاه سوريا خلال عقد التسعينات من القرن الماضي، إذ كان للتحالف التركي مع إسرائيل عام 1996 م، وما تضمنه من اتفاقيات عسكرية وأمنية أثرها الكبير في تبني السياسة الخارجية التركية لمواقف تصعيديه تجاه سوريا، ذلك إن إسرائيل وبموجب هذه الاتفاقيات كانت تزود تركيا عبر أقمارها الصناعية بمعلومات ( مشكوك بصحتها) عن أعداد مقاتلي حزب العمال الكردستاني ومعسكراتهم داخل الأراضي السورية، وكذلك الاتفاق الثنائي الذي وقعه الجانبان عن أن أي حرب يخوضها جيش أي من الدولتين ضد دولة ثالثة يستوجب مشاركة الدولة الاخرى في الحرب ضد هذه الدولة الثالثة، الأمر الذي أعطى فائض قوى لتركيا بأن أي تصعيد قد يؤدي للحرب مع سوريا، فإن الكفة ستكون لصالح لصالحها. والى جانب المتغير الإسرائيلي كان هناك المتغير الأمريكي المؤثر أيضاً في السياسة الخارجية التركية تجاه سوريا وذلك من خلال قام المسؤولين الأمريكيين بتحريف وتأويل أي لقاءات مع الجانب السوري بإعطاء الجانب التركي صورة عن إن سوريا لا تنوي التعاون مع تركيا في حل المشاكل العالقة بينهما بالطرق الدبلوماسية، وكذلك قيامها بتزويد تركيا بخرائط عن داخل الأراضي السورية، ولذلك (PKK) أماكن وأعداد تواجد عناصر حزب العمال الكردستاني نلاحظ إن مشكلتي المياه والأكراد، إضافةً إلى تأثير نخب صناع القرار العلمانيين في تركيا، وتأثير المتغيرين الإسرائيلي والأمريكي، من الأسباب الرئيسية في دفع السياسة الخارجية التركية إلى تبني مواقف تصعيديه ومتأزمة تجاه سوريا خلال عقد التسعينات من القرن المنصرم، وإن هذا الموقف التصعيدي كاد أن يصل إلى حالة الحرب عندما قامت تركيا بتحشيد قواتها العسكرية على الحدود مع سوريا في تشرين الأول عام 1998 م، وهددت سوريا بالقيام بعمليات عسكرية هناك، ما لم تقم هي (PKK) داخل الأراضي السورية لمكافحة نشاط حزب العمال الكردستاني بذلك، وكان لجهود الوساطة المصرية الدور الأكبر في تدارك الموقف المتشنج والتي نتج عنها توقيع اتفاق أضنه بين تركيا وسوريا في تشرن الأول 1998 م، والذي تعهدت سوريا خلاله بطرد زعيم الحزب( عبدالله أوجلان) وبإغلاق معسكراته المتواجدة فوق أراضيها، ولذلك فإن السياسة الخارجية التركية تجاه سوريا في المدة 1990 م – 1998 م يمكن القول بأنها كانت سياسة متوترة، تم خلالها تغليب الوسائل العسكرية على الوسائل الدبلوماسية في حل هذه الخلافات. ومنذ توقيع اتفاق أضنه عام 1998 م، وحتى أواخر عام 2002 م، اتسمت السياسة الخارجية التركية تجاه سوريا، بالاستقرار والهدوء الحذر، فعلى الرغم من تجاوز حالة التوتر، ألا إن هناك عدة محددات لعبت دوراً في بقاء هذه السياسة تمر بمرحلة برود، منها المحدد الاقتصادي، إذ انه خلال هذه المدة مرت تركيا بأزمة اقتصادية خانقة الأمر الذي صرف أنظار صناع السياسة الخارجية الأتراك عن الاهتمام بالشؤون الخارجية وبإنفتاح سياستهم الخارجية على سوريا، وذلك لتبدل الحكومات وانشغالهم بالوضع السياسي والاقتصادي الداخل بالمتأزم، ولكن ذلك لم يخلو من إطلاق إشارات تركية ايجابية تجاه سوريا كتعبير عن الرغبة في تحسين الموقف والانفتاح على سوريا، ومن هذه الإشارات حضور الرئيس التركي ( أحمد نجدت سيزر) لمراسيم تشييع الرئيس السوري السابق (حافظ الأسد) في حزيران عام 2000 م. ومع وصول حزب العدالة والتنمية الى الحكم في تركيا في أواخر عام 2002 م، عمل الحزب على تبني رؤية جديدة للسياسة الخارجية التركية تقوم على الانتقال بتركيا من دولة هامشية، ودولة جسر بين الشرق والغرب، إلى دولة قوية مركزية، وقوة إقليمية تكون في مركز الأحداث في المنطقة، وذلك من خلال تبني مبادئ جديدة للسياسة الخارجية تقوم على تصفير المشكلات مع دول الجوار، والانفتاح على جميع الدول بدلاً من الاقتصار على الغرب، وإعطاء الأولوية للأدوات والوسائل الناعمة في السياسة الخارجية التركية، وإنطلاقاً من ذلك بدأت السياسة الخارجية التركية بالعمل على تجاوز خلافاتها مع سوريا وسخرت جميع الوسائل السياسية والدبلوماسية والاقتصادية من اجل الانفتاح على سوريا، إذ إن تركيا عدت سوريا ركناً أساسياً في سبيل نجاح رؤيتها الجديدة للسياسة الخارجية نحو المنطقة العربية، كونها تشكل بوابة تركيا إلى العالم العربي، فبدأ الانفتاح والتقارب التركي تجاه سوريا والذي تزامن مع توحد الرؤى حول الاحتلال الأمريكي للعراق والعمل على منع انتقال الفوضى منه إلى كلا البلدين، والعمل على منع قيام دولة كردية في شمال العراق، ومنذ ذلك الحين بدأت السياسة الخارجية التركي تخطو خطوات واسعة ومتسارعة في انفتاحها على سوريا، وفي كافة المجالات، ومن أجل المحافظة على هذا الانفتاح رفضت تركيا ضغوطاً دولية للمساهمة في العزلة الدولية التي فرضت على سوريا عقب اتهامها بالضلوع بعملية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق (رفيق الحريري) في شباط 2005 م، إذ كانت لتركيا رؤيتها الخاصة القائمة على إن الاستمرار في التواصل وعدم المشاركة في العزلة الدولية على سوريا، سيساعد في جلب منفذي العملية إلى قبضة العدالة، واستمرت تركيا بإنفتاحها على سوريا محققة النجاحات الواحدة تلو الاخرى، حتى أصبح النجاح في السياسة الخارجية التركية يقاس بمدى نجاحها في سياستها الخارجية تجاه سوريا التي أصبحت نموذجا للسياسة الخارجية التركية مع الدول الاخرى، وكان هذا الانفتاح والتقدم قد وصل إلى أعلى مستوياته في نهاية العقد الأول من القرن الحالي إلى تشكيل مجلس استراتيجي عالي المستوى مع سوريا تم خلاله الاتفاق على توقيع عشرات الاتفاقيات وفي كافة المجالات، وكان المجال الاقتصادي هو الدافع الأساس والرئيسي في هذا الانفتاح وذلك يدل على إن تركيا نجحت في استخدام الوسيلة أو الأدوات الاقتصادية كإحدى أدوات سياستها الخارجية في تحقيق هذا التقدم والنجاح. ويمكن القول أن السياسة الخارجية التركية تجاه سوريا خلال العقد الأول من القرن الحالي كانت أكثر استقلالاً مما كانت علة خلال عقد التسعينات من القرن المنصرم، ذلك أنها اتبعت سياسة خارجية تقوم على مبدأ تعدد الأبعاد أي إن علاقتها مع الولايات المتحدة الأمريكية لا تكون على حساب علاقتها مع سوريا، أو على حساب أي دولة اخرى، وعلى هذا الأساس كانت السياسة الخارجية التركية تجاه سوريا خالية من أي تأثير إقليمي أو دولي الأمر الذي جعلها بإستقلاليتها هذه مركزاً للأحداث وتؤدي دور الوسيط فدخلت في وساطة بين سوريا وإسرائيل عام 2008 م، وبين سوريا والعراق عام 2009 م، وذلك لما تتمتع به من علاقات طيبة مع جميع النزاع انذآك. ومع انطلاق الاحتجاجات المطالبة بالتغير في سوريا في آذار عام 2011 م، أعلنت تركيا عن دعمها للنظام السوري وعن قناعتها بقدرته على قيادة عملية الإصلاح التي يطالب بها المحتجون، وتوقعت بأن علاقتها المتينة مع النظام في سوريا سوف تمكنها من إقناعه بإجراء الإصلاحات والتوقف عن قمعه للمحتجين، لكن عدم قيام النظام السوري بإجراء أي عملية إصلاح واستمراره بعمليات قمعه للمحتجين دفع بتركيا إلى أن تتبنى موقفاً معارضاً للنظام السوري، وبذلك أخذت السياسة الخارجية التركية تشهد تراجعاً متسارعاً مصحوبا بالتوتر والتأزم الذي اتسم به الموقف التركي تجاه سوريا مع تصاعد وتيرة الاحتجاجات، لينتهي بذلك العقد الذهبي في الانفتاح التركي على سوريا، وكان لتركيا دوافعها الخاصة بها في هذا التحول، ويبدو ان تركيا قد تصرفت بحكم ما تقتضيه مصلحتها وأمنها بالدرجة الاولى، وان الضغوط التي قد تعرضت لها من القوى الكبرى من اجل تصعيد لهجتها تجاه سوريا لعزل النظام من قبل اقرب حلفائه( تركيا( جاءت بعد أن أدرك عدم صدق نوايا النظام السوري في تحقيق الإصلاحات مما يعني استمرار وتصاعد حدة الاحتجاجات والفوضى التي ستنعكس بصورة أو بأخرى على أمنها، ولذلك فإن تقارب وجهات النظر بين تركيا والقوى الدولية حول الموقف من سوريا لا يخرج عن كونه) إلتقاء للمصالح)، ولهذا لو كان الدافع الرئيس حول تغير الموقف التركي من سوريا هو نتيجةً للضغوط الدولية لما عملت تركيا في بداية الاحتجاجات على دعم النظام وأعلنت عن إمكانية قيامه بقيادة عملية الإصلاح المنشودة. ومع صعوبة التكهن بمستقبل السياسة الخارجية التركية تجاه سوريا نتيجةً للتطورات المستمرة للحدث، ألا إن المعيار الرئيس الذي سيحدد هذا الأمر هو بقاء النظام السوري في الحكم من عدمه، ففي حالة نجاحه في البقاء بالسلطة وإنهاء الاحتجاجات عبر الوسائل الأمنية، فإن السياسة الخارجية التركية ستشهد بروداً كبيراً نتيجة لموقفها منه أثناء مدة الاحتجاجات، وقد تشهد توتراً فيما إذا قام النظام في سوريا بأي عمليات (انتقامية) تعدها تركيا تهدد أمنها القومي، أما في حال زوال النظام فإن السياسة الخارجية التركية تجاه سوريا يتوقع أن تعاود الانفتاح على سوريا كذلك الذي كانت عليه قبل بدء الاحتجاجات أو بصورة اكبر نتيجةً موقفها الذي سيعد ايجابياً من عمليات الاحتجاج ، ولعلاقتها الطيبة مع قوى المعارضة السورية الذين استضافتهم فوق أراضيها والذين سيتولون زمام الحكم بعد زوال النظام. ومن كل ما تقدم يمكن أن نستنتج بعض النتائج التي تثبت صحة الفرضية التي وضعناها في بداية الدراسة وهي إن السياسة الخارجية التركية تجاه سوريا خلال عقد التسعينات من القرن الماضي كانت واقعة في جزء كبير منها تحت تأثير المتغيرات الإقليمية والدولية وبما يخدم مصالح هذه المتغيرات بالمقام الأول قبل المصالح التركية، ولكن مع بداية القرن الحالي وصعود حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002 م، بدأت السياسة الخارجية التركية تأخذ منحى أخر مختلف تماماً عما كانت عليه سابقاً، ذلك أنها أصبحت تقوم على خدمة المصالح التركية بالمقام الأول، وان هذه المصالح قد تختلف مع أجندة المتغيرات الإقليمية والدولية تجاه سوريا حيناً( كما كان عليه السياسة الخارجية التركية بين أواخر عام 2002 م ولغاية أوائل عام 2011 م)، وقد تتفق معها وتقوم بالتنسيق المشترك فيما بينها (كما هو حال السياسة الخارجية التركية تجاه سوريا بعد انطلاق الاحتجاجات الشعبية في سوريا.